هل فكرت يوماً في زيارة آثارِ الحروب
السّياحة السّوداء .. هل تحتلّ مكان السّياحة المتعارف عليها؟
العراق نموذجاً (1)

هل فكرت يوماً في زيارة آثارِ الحروب
السّياحة كلمةٌ صغيرةٌ في معناها ضمنَ الوعي الجمعي، وأغلبنا ينظر للسّياحة على أنّها نوعٌ من الاستجمام والتّمتعِ بما تهبه الطّبيعةُ من جمالٍ وما تحكيه الآثارُ من شموخ.
تحسبُ، الأكثريّة السّاحقة، السّياحةَ شواطئاً، فنادقاً، مطاعماً، ومغامراتٍ لا منتهية اللّذة، لكن هل فكّرت يوماً أن تزورَ تلك الأبنيةَ التي هشّمتها الحرب، لتراها تصطفُّ كأسنانِ المشط المخلَّعة في ثوبِها الرّمادي، وهي مكسوةٌ بالغبارِ والصمتِ والهدوءِ والفراغِ والدموعِ والعويلِ الخفيفِ الذي تسمعُهُ من أحجارِها كصدىً لنحيبِ أهلِها على فِراقِها؟ هل جرَّبتَ أن تُخصّصَ سياحتَكَ لتراقبَ يُتمَ الأحجارِ وهي تئنُّ وتلعنُ اليدَ البشريةَ على ما فعلتهُ من خرائب؟
صدّقني لن تعدمَ الوسيلةَ في عالمٍ يتحاربُ أكثر مما يتصالح، وستجدُّ ما تبحثُ عنه منتشراً في كلِّ مكانٍ كصروحٍ تذكاريّةٍ وأبنيةٍ صامدةٍ شاهدةٍ على كلِّ ذلك.
العالم العربي .. الأوّل في مجال التّحسّر السّياحي:
لعلَّ أوّل ما يتبادرُ للذّهنِ في سياحة من هذا النّوع هي زيارةُ العِراق، ليسَ العِراقُ بهذهِ السّوداويّةِ، فقد أنتج هذا البلدُ للعالم آلافَ القطعِ الأثريّة القادرةِ على رفدِ السّياحة والمهتمين بها على امتدادِ ملايين السّنين، لكنهُ ولسوءِ حظّهِ كانَ البلدَ الذي ما أن يقومَ من حربٍ حتى يقعَ بأُخرى على امتدادِ عمرِهِ الطّويل، فخلَّف ذلك له ذاكرةً طويلةً من الحزنِ والألم مخزونةً في أحجارِهِ ومتاحفِه وحتى في عيونِ أهلِه، لقد أدى غزوُ العراق إلى تدمير قرابةِ خمسة عشر ألفِ موقعٍ أثري بين النّهب والدّمار.
المتحف العراقي ببغدادَ مثلاً، والمؤلَّفَ من 451 خزانةِ عرضٍ، هو واحدٌ من أقدمِ المتاحفِ في منطقةِ الشّرقِ، ويبسطُ جناحَهُ على خمسمئةِ عامٍ وأكثرَ من الحضارةِ الإنسانيّة.
أُغلق المتحف قبل غزوِ العراق في العام 2003، كي لا يتعرّضَ للخطر الذي تجره الحروبُ على متنِ طائراتِها لكن ذلك لم يمنع من سرقة القطع الأثريّةِ التي بلغت إحدى عشرةَ ألفَ قطعةٍ أثريةٍ نادرةٍ جداً في أغلبِها، ومن ثمَّ تمَّ استرجاعُ أربعِ آلافِ قطعةٍ أثريّةٍ لتضربَ عينَكَ عندَ زيارةِ المتحفِ على سبعةِ آلاف فراغٍ تزورُ قطعهم في خيالِك.
هو نوعٌ من السّياحةِ السوداءِ والنّظرِ لتاريخ المدن والحضارات التي تشكّلها الحروب كما يشكّلها الازدهار والرّخاء.

لم يكنِ المتحفَ الوحيدَ على عظمةِ العراق لأنَّ العراقَ كلَّهُ متحفٌ كبير
وأينما تجولُ بنظرِكَ تقعُ على عظيم، فمنطقة الجامع الكبير وسط الموصل بقيت لتسعة قرونٍ تتفاخرُ بمنارتِها الحدباء العاليةِ، كلُّ هذهِ العظمةِ لم تشفع لها ضدّ تنظيم الدّولة الإسلاميّة الذي رسمَ غلَّهُ على شكلِ تفجيراتٍ فيها ودمّرَ مدنَ نينوى الخمس: الحضر، والنمرود، ونينوى الأثريّة، وخورسباد، وإسكي، وبقي من التّاريخ 10% فقط، لتقولَ لكَ: تعال لتزورَني، فقد لا تراني مرةً أُخرى بعدَ كلِّ هذا الغلِّ البشري. 10% لتعلن منها عمراً جديداً لتاريخٍ جديدٍ وسياحةٍ جديدةٍ وبلادٍ تقصقصُ حضارتُها على مرأىً من العالم، 10% تحكي لكَ قصةَ الـ 90% التي قاومت وصمدت وحاربت وحوربت حتى سقطت بوجه المتفجرات، وسقطت معها بوابات نينيوى، 10% أثرٌ بعد خبر كعينٍ سقطت من مكانِها لتقولَ لكَ كانَ هنا ضوءٌ ذاتَ يوم. كانَ هنا، وكانَ هنا متحفَ بابل، أحد عجائب الدّنيا السّبع ومعابدُ الآلهةِ في الأساطير السّومريّة، قرب الزقورة مهدُ سيدنا ابراهيم الخليل، كلُّها على قداستِها أصبحت ثكناتٍ عسكريّةً، وأماكنَ للرّجم، لتأخذَنا زيارةُ أماكنَ كهذهِ إلى أبدعَ ما أنتجتهُ الحضارةُ البشريّةُ في سالفِ عصرِها وأقمأ ما دمرته يدُ البشرِ من بعدِهِم، سياحةٌ متناقضةٌ لحدِّ أن ترى بوابة عشتار آلهة الجمال تحت سطوة الرّماد البشعة.
يتبع…
