هل أنا سعيد؟ سؤالٌ لا يطرحهُ الـ”راديو”!
سنا محمد

كانت السّاعةُ الحاديةَ عشرة ليلاً، وتصلني من بين موجاتِ الـ”راديو” المختلفة، موجةُ تلك المحطّة، وها هو صوتُّ المذيع يلهو بالحروف، وكأنّه يمضغ بالوناً، ويسردُ المشاكلَ العاطفيّة بتأثّرٍ مبالغ فيه، وينصحُ فلاناً بالابتعاد عن فلانة، وآخر بأن يصبر حتّى يفوز بحبِّ حياته، وتلك بأن تنسى وغداَ خانها…
لكن على الرّغم من مقتي لهذا النّوع من البرامج؛ إلّا أنّني حينها كنت أرى في ذلك المذيع مُنقذاَ، لكن لماذا أسبغه بهذه الصّفة؟ ذلك لأنني وبعمري الصّغير سمعتُه، ذات مرّةٍ، ينطقُ حِكماً بأفكارٍ لم يحدّثني محيطي عنها، فنحن ننشأ بخجلٍ من عواطفنا، ولا نعترف لأنفسنا على الأقل بأنّنا نُحبّ، ونتغنّى بحياء الطّفولة البعيدة عن الغرام بالآخر، هذا المذيع أكاد أجزمُ أنّه معروفٌ لكلِّ أقراني، أو من هم من أبناء جيلي، نحن الذين اكتشفنا معه أن هنالك مشاكل أكبر بكثيرٍ من إخفاء رسائل المراهقة في الكتب المدرسيّة.
خُيّلَ إليَّ لو أن لمشاكلنا العاطفيّة خصوصاً، والنّفسيّة عموماً، “مذيعون متخصّصون” بطرحها، وقد استخدمت كلمة مذيع لربطها بالسّياق الذي أحدّثكم فيه، فليس من مَهمّة المذيع أن يُطلق النُّصح في هذه القضايا، وإنما أن يكون صلةَ الوصل، تربطكم بأهل الاختصاص، “الاختصاصيون بالصّحة النّفسيّة أو الأطباء النّفسانيون”.
لكنّنا نحتفظ بصورةٍ نمطيّةٍ عن الطّبيب النّفسي، ونخجل من إعلان حاجاتنا له، ويشغلنا فقط أن المرض النّفسي مرتبطٌ بفقدان العقل أو الجنون، وما لا نعرفه أو ما لا نريد الاعتراف به، هو أننا مصابين بأمراض أشدُّ خطورةَ من الجنون نفسه، وأوّلها أن يكون الذّهاب للطبيب النّفسي عيباَ يخالطه الخوف، والتّردّد من معالجة النّفس، وهي تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ تمسّكنا بالخجل، والخوف من حبِّ الطّفولة.

يأكل الفردُ في مجتمعاتنا نفسه منذ الولادة، فوزنه ولونه وملامحه تنال اهتماماً أكبر بكثيرٍ من طريقته في التّعبير عن نفسه، وفهمه لها، فأن يحمل اسم جدّه الأوّل، وملامح خاله، وطول عمّه، هي تفاصيلُ تتقدّم أشواطاً عمّا يشعر به هو، وما هي ملامحُ شخصيّته.
ثمَّ لو وُجِدت تحاليلُ للصّحة النّفسيّة، كتلك التي ننفق عليها أمولاً طائلة لنتأكد من عدم وجود أيّ مشكلة جسديّة، لكنّنا في المقدّمة، فوفقاً لأطلس منظّمة الصّحة النّفسيّة، يظهر لنا أنّ نسبة اضطرابات الصّحة النّفسيّة التّي تُترك من دون علاج تتراوح بين 35% و50% في البلدان ذات الدّخل المرتفع، وبين 76% و85% في البلدان ذات الدّخل المتوسط، وهذه النّسبة تحتاج أطباءً كُثر يفوق عددهم عدد أولئك الذين يعالجون أجسادنا.
فهل سألت نفسك يوماً هل أنا سعيد؟! أو هل أنا مرتاح؟ أو هل أنا راضٍ عن حياتي؟ هل حدّدت مخاوفك، وتمكّنت من ضبط قلقك كي لا يقلّل مجهودك؟ وهل استطعت التّعامل مع ضغوط الحياة بمرونةٍ وبساطة؟
تعني الصّحة النّفسيّة أن نشعر بالتّعافي، أن نتقبّل وجود مشكلة نفسيّة كأيّ مشكلةٍ جسديّةٍ تعترضنا، وأن نتقبّل النّقاش فيها، مهما بلغت درجة حساسيّتها، هي لا تتطلّب منّا تشغيل الـ”راديو”، ومحادثة المذيع أو الاستماع له للحديث عن مشكلةٍ ما، أو أن نختبأ خلف مشاكل يطرحها غيرنا عبر الأثير لنسمعها كما كنت أفعل ذلك الوقت، هي تحتاج منك فقط الاستماع لروحك جيّداَ، وتكتشفها، وأن تطمئن عنها، وأن تحتفي بفهمك لنفسكَ بعيوبها ومميّزاتها في العاشر من أكتوبر كلَّ عام.