مع ذكرى فقيد الشعر العربي
محمد أحمد غزال

رُبّما تَختَلِف وُجهات النَّظر بَيْن اَلكثِير مِن الأدباء والشُّرَّاح ومتذوِّقي الشَّعْر والْأشْخاص العاديِّين على صِحَّة ومصْطلحات الشِّعْر والْقوالب المتمِّمة لَهَا، والتَّغاير اَلفكْرِي اَلذِي حصل فِي اَلعُصور الماضية، جعل العالم يَنقَسِم بِالْفِكْر الأدَبيِّ والنَّواحي الشِّعْريَّة بِدرجَات وأنْمَاط مُختلفَة، وَلكِن مِن دُون أَدنَى شكٍّ، اِسْتطَاع الشَّاعر اَلكبِير نِزَار قَبانِي أن يُعيد تَرتِيب أَبجدِية الشِّعْر العرَبيِّ ويحيكهَا بِأسْلوب يُجَارِي مُتطلَّبات العصْر.
لَقد فعلهَا الرَّاحل نِزَار قَبانِي بِإعادة تَوحِيد النَّظْرة الواحدة نَحْو الشِّعْر بِتناغم يُحَاكِي أُسلُوب الوقْتِ والزَّمان والْغرام المتلاحق لَه، كُلُّ هذَا وَبقِي أنين نِزَار وصوْته يُرَافِق العاشقين، ويوافق اَلحُبّ والنِّسْيان، ويمجِّد الشَّام بِشموخهَا، ويجيد بِشعْره طُرُق اَلحُبّ بِأسْلوبه اَلْخاصّ المتفرِّد، نِزَار قَبانِي الشَّاعر العرَبيِّ اَلذِي قَبِل أن يَكُون سُوريٌّ بِروحه القوْميَّة، وشعْره الأسْطوريُّ اَلذِي يُقدِّم فِيه البرْهان اَلمدْهِش والْمتفرِّد والْأصيل، على أنَّ اَلحُبّ هُو خُبْز الحيَاة وروْنقهَا،.

لَقد نشأ الرَّاحل نِزَار بِنشْأة رُوحيَّة وَفكرِيّة مُتَألّقَة بِبيئة شَعبِيّة مُعْتزَّة بِلَا غُرُور والصَّامدة بِلَا ضَوْضاء، لَقد كَانَت قَصائِد نِزَار قَبانِي الأسْرع فِي دُخولِهَا لِقلوب المتذوِّقين وَالفِعل اَلمُؤثّر لَدى الشَّبَاب والْفتيات بِشَكل خاصٍّ، جَرَّاء رِقَّة شِعْرِه اَلمُعذّب والدُّخول المتركِّز على قُلُوب العاشقين، برز نِزَار كَواحِد مِن عَمالِقة الشِّعْر اَلحدِيث، بَعْد القصيدة الكلاسيكيَّة اَلتِي بَقِي رُوَّاد الشَّعْر اَلقدِيم يسيرون على كِتابة أشْعارهم بِالطَّريقة التَّقْليديَّة مِنْهم السَّيَّاب والْبيَّاتي وَغيرِهم، لَقد خَاطَب الوطن والْحبُّ والْحياة والْجمال، وَسلَّط الضَّوْء على الجانب اَلمظْلِم لِلْمرْأة العربيَّة وَشدَّة قهْرهَا والظُّلْم المجْتمعيُّ العرَبيُّ لَهَا، بِمجْمل ذَلِك كَسْر نِزَار حَاجِز المأْلوف بِالشِّعْر، وأعْطى لِلْإنْسان مِساحة مِن اَلحُريّة بِشعْره، وَلكِن اَلذِي جعل شِعْره مُتناغماً مع الموسيقى، عِنْدمَا غَنَّت المطْربة الرَّاحلة أُم كُلْثُوم (أَصبَح الآن عِنْدِي بُنْدُقيّة) اَلتِي أَتقَن فِي صِياغتهَا وبيْن قَهْر الشُّعوب المظْلومة ومقاومته لِلاحْتلالات، وَطغَى على قَصائِده النَّمط الوطَنيَّ اَلتِي حَرّكَت ضمير الشَّارع العرَبيِّ، وَأَصبحَت مرْجعاً لَهُم فِي زَرْع الأمل ومقاومة الاحْتلال بِالطُّرق المشْروعة، أنَّ رحيل نِزَار قَبانِي عن السَّاحة العربيَّة شَكَّل ضَربَة مُوجعَة لِلْورْشة الشِّعْريَّة العربيَّة، التِي ولم تُنْجِب اَلأُمّة شاعراً حَتَّى الآن بِمسْتَوى نِزَار الفنِّيِّ والْإبْداعيِّ والْفكْريِّ، وَلقَد أَصبَح الشِّعْر فِي هذَا العصْر فِي حَالَة رُكُود بَعْد رحيل رُوَّاد الشَّعْر الكبَار بِاسْتثْناءات مَحدُودة جِدّاً، بَعْد كُلِّ ذَلِك لَم تَتَغيَّر الذَّائقة الشِّعْرية لَدى قَارِئ شعر نِزَار بل كَانُوا أَكثَر تعمُّقاً وتعلُّقاً بِشعْره.

لَقد تَرجَّل صَاحِب القلم الأسْطوريِّ شَاعِر المرْأة بِهدوء جميل تَارِكاً وراءه عَشَرات الدَّواوين الشِّعْريَّة. سيبْقى نِزَار شَاعِر العشْق والْعشَّاق وسبيلاً لِلنَّجَاة مِن هَوْل الحيَاة ومكاناً لِلْوطن الضَّائع بِلَا أَفكَار .