أحدث المقالاتمواهب واعدة

من يكره الأطفال ؟!

بشار دولة

من يكره الأطفال ؟!

هل سمعت مرّةً بأحدٍ يكره الأطفال؟ نعم أنا سمعت، ثمّ لو كان ذلك لماذا يكرههم؟،
وهل يفعل الأطفالُ أشياءً تُزعجُ الكبار وتثير غضبهم؟ وهل يوجد أجمل من الملامح الطّفوليّة النّقيّة؟
أو أعذب من أصواتهم، وهي تملأ أرجاء البيت، وتزيّن جوّ العائلة؟

هذه كانت تساؤلاتي لصديقةٍ لي كانت دائماً ما تبدي انزاعجها من أصوات الأطفال،
ووجودهم على سطح هذا الكوكب، وعلى الدّوام تشتكي من إزعاجات ابن جيرانهم في المنطقة،
حتى مرّةً قالت لي: “لو استطعت لذبحت هذا الطّفل، هو لا يتركني أنام براحةٍ وهناء، فهو دائماً ما يصرخ ويبكي ويزعج أهله،
ويوقظُ الحيّ ببكائه، وأنا معروفة بنومي الخفيف، عند أوّل صيحاته، انتفض، يا رجل، يقضُّ مضجعي.

“يارا” هذه، صديقتي من مناصري ما يسمّون أنفسهم “اللانجابيون”، هؤلاء يكرهون التّناسل،
هم مع أن يمارس الرّجل والمرأة الجنس أو لكم أن تسمّوه الحبّ، لكن شريطة استعمال الرّجل للواقي الذّكري،
أو حبوب منع الحمل عند المرأة، أو أيّ طريقة تحول من دون تكاثر الجنس البشر.

تعتقد “يارا” كما كلّ المناصرين لتيار “اللانجابية” أنّ عمليّة الإنجاب عمليّة غير أخلاقيّة،
وليست إلا رغبة نابعة من حاجات البشر الأنانيّة، كرغبتهم في الجنس، والزّعامة، وحبّ النّفس، والأمومة، والأبوّة، ورغبتهم في التّملك، والرّعاية، والوصاية على كائن ضعيف، يرون أنفسهم من خلاله، وما هذه الحاجة إلا حاجة بهيميّة، لا تعني أيّ شيء بالنسبة ليارا،
طالما أنّهم سينجبون طفلاً، ويصير شابّاً، وقد يعاني من مرضٍ وراثي لا ذنب له فيه سوى أنه وَرثه عن أهلهِ،
وهذا ما لفت إليه الشّاعر والفيلسوف أبو العلاء المعرّي في بيته المشهور: “هذا ما جناه أبي عليّ .. وما جنيتُ على أحد”،
في إشارةٍ منه إلى أن أبيه ورّثه المرض، والهموم، والبيئة، والدّين، والمجتمع الذي يعيشه فيه،
وكلّ هذا لم يكن من اختياره، بل كان وراثة من أبيه.

من يكره الأطفال ؟!

من يكره الأطفال ؟!

أتابع حديثي مع يارا، دعينا نقول يا عزيزتي أنّنا أنانيّون كبشر، ونريد إشباع كلّ هذه الحاجات التي تحدّثتِ عنها،
فهل هذا يعني سيئاً يا صديقتي؟، تجيب يارا: “نعم، مجرّد أنّك تنجب طفلاً، يعني أنّك تدخله في متاهة الحياة،
التي، إلى الآن، لا أنا ولا أنت نعرفها، ولا نعرف كُنهها، لا نعرف شيئاً فيها مطلقاً، لا نعرف من نحنُ، ولماذا نحن هنا؟
لا نعرف أيضاَ ما هو الدّين الصّحيح، والشّريعة القويمة، لا نعرف الحزب السّياسي الحقّ، لا نعرف من على الحقّ، لا نعرفُ الله،
ولم نتأكد إلى الآن أنّ هذا الإله موجود بالفعل، وإن كان موجود، فأين هو؟!
أين هو من كلّ هذا الظّلم، والفقر، والتّعاسة، والبلاء، والفساد، أين هو؟

أنا أعتقد، نحن في اللا شيء، فلماذا نأتي بطفلٍ؟ وبروحٍ جديدةٍ، نجعلها تعاركُ كلّ هذه الموجودات العشوائيّة،
وكلّ هذه العبثيّة، لماذا نريد للتّعاسة والألم الاستمرار؟، يا أخي فلننقرض، فلنكن عدميين.

وقد تكون “اللانجابيّة” ناتجة عن القهر، والفقر، والنّقص، الذي تعيشه بعضُ المجتمعات المقهورة،
خصّيصاً مجتمعات بلدان العالم الثّالث، والتي تعيش أعداداً متزايدة في السّكان مع ارتفاع طردي في معدّل الفقر، والأمراض، والأوبئة، والجهل.

يقول “علي”، وهو طالب في كليّة الحقوق في سورية: “إنّه من الكفر إنجاب طفلاً في سورية، وبالتّحديد في هذا الوقت،
فنحن لا نعيش حياةً طبيعيّةً، حياتنا آهات، وآلام، وحروب، وتعصّب، وقتل، ودمار، نعم أحبّ أن يكون لدي طفل، أربّيه، وأرعاه، وأحميه، لكن ليس في هذا البلد، وفي هذه الأرض حتماً”.

من يكره الأطفال ؟!

من يكره الأطفال ؟!

ومن كلّ هذا الحوار والإفادات، نعرف ونتأكّد أن “اللانجابيّة”، إنّما هي وليدة التّيّار الفكري التّشاؤمي أو العبثي الذي نظرّ إليه كلّ من “توماس هكسلي”، وهو عالم أحياء وتشريح إنكليزي، و”سيوران”، و”برتراند راسل”، وهو فيسلوف وكاتب إنلكيزي أيضاً.

و”اللاأدريّة – أغنوستسم”: توجّه فلسفي، يقول إن القيمة الحقيقيّة للقضايا الدّينيّة أو الغيبيّة غير محدّدة، ولا يمكن لأحد تحديدها. إن قضايا وجود الله أو الذّات الإلهيّة بالنسبة لـ”اللاأدريّة” أو العبثيّة موضوع غامض كليّاً، ولا يمكن تحديده في الحياة الطّبيعيّة للإنسان.

وهناك أيضاً من يناقضّ كلّ من يارا وعلي، هناك من هو متديّن بدين ما، أو إنسان بسيط، يريد أن يعيش حياة بسيطة، يريد أن يتزوّج، ويشعر باللّذة الجنسيّة مع أنثاه، ويجامعها من دون واقي ذكري، يريدُ  أطفالاً من صلبه، يريدهم ليربّيهم، ويعلّمهم بطريقة سليمة، لا يريد من هذه الحياة سوى الاستمرار كما هي عليه، يعيشُ كما تفرض عليه حاجاته، وشهواته، لا تهمّه الظّروف ولا الأمكنة.

يقولون:

“لا تشعر بأنّك متأكد من كلّ شيء، أملأ نفسك بالشّك” – “برتراند راسل”.

“مِن أجل نشوة لا تتعدّى تسع ثوانٍ، يُولد إنسان يشقى سبعين عاماً” – “إميل سيوران”.

ريتينغ برودكشن

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى