من يغتصب مهنة تقديم البرامج؟!

هل تحتاج مهنة تقديم البرامج مواصفات محدّدة يتمّ الاعتراف بها لدى أيّ تلفزيون في العالم أم إنّها مهنة سهلة المراس ويمكن بقليل من التّدريب أمام الكاميرا أن يزاولها أيُّ شخص؟!
ما دفعنا في الحقيقة لطرح مثل هذا السّؤال، أن استسهالاً ما اصطبغ بمهنة تقديم البرامج في السّنوات الأخيرة، فبتنا نرى مقدّمي برامج لا يمتلكون من المواصفات المطلوبة اكتمالاً، لا بدّ من أن يحظوا ببعضه على الأقلّ، قبل إطلاقهم في برامج تلفزيونيّة، يُكرَسون فيها لسنوات وسنوات، ومن دون أن يؤثِّروا بالجمهور لا من قريب ولا من بعيد!
كاريزما التّقديم
إنّ كاريزما مقدّم البرامج شخصيّة شديدة الخصوصيّة، لا علاقة لها بأداء وظيفة فقط، وهذا هو مقتل المهن الإبداعيّة، فهي شعرة بين أن يصبح الأمر في عداد الوظيفة المتكرّرة، وبين تأدية العمل الذي يجدّد نفسه في كلّ مرّة، فمع التّكرار لن ينتج لدينا إلا الملل ونكون قد وقعنا في فخّ إرضاء ساعات الدّوام الوظيفي على حساب مضمون البرنامج، وبالتالي ستتقلّص الرّغبة في متابعة البرنامج لدرجة المقاطعة كما يحصل في النسبة العظمى من برامجنا المحليّة.
من جهةٍ ثانية، عندما تتوافر كاريزما مقدّم البرامج لا بدّ لها مع قليل من الوقت أن تنتج ظلاًّ ملاصقاً لها وهو الشّعبية، وبذلك نتأكد فعلاً أن صاحب هذا البرنامج في مكانه المناسب، وعلى الرّغم من أن صفة الشّعبية قد تتأخر قليلاً في بعض البرامج بسبب طبيعتها إلا أنّها صفة لا يمكن تجاهلها.

النّطق وقواعد اللغة العربيّة الفصحى
من مواصفات المقدّم الكارزماتي المهمّة مخارج الحروف، ونطقها السليم، وهذه ناحية قد يلعب مختصّون في الإشراف على تدريب مقدّم البرامج، وتطويرها بتكرار التّعليمات والتّدريبات، بالإضافة إلى ضرورة معرفة المقدّم عن تفاصيل الحروف وميّزاتها اللغويّة، فهذه المعرفة لها قسمان الأوّل يأتي بالتمهين والتّدريب كما أشرنا، والثّاني بالإلمام المعرفي بقواعد اللغة العربيّة الفصحى، حتّى وإن كان البرنامج لا علاقة له بهذا الجانب بالتّحديد إلا أن امتلاك هذه الميّزة سيفتح أُفقاً لدى المقدّم أكثر مما يتوقع هو نفسه.
محبّة الكاميرا
كثيراً ما نسمع أن عين الكاميرا أحبّت شخصيّة فلان ولم تحبّ الآخر، وهذه حقيقة لا بدّ من الاعتراف بها، وهي ملكة تولد مع الشّخص، ومن الصّعوبة الاعتراف بهذه المسألة من قبل البعض، إلا أنّ المختصّين في العمل البرامجي قادرين على التقاطها بالملاحظة، فيبان لهم منذ البداية بأنّ فلان قادر أن يكون ناجحاً أكثر من غيره.
الثّقافة العالية
لا يمكن لمقدّم البرامج إلا أن يكون صاحب ثقافةٍ عالية، وإلا أصبحت شخصيّته كأيّ متحدّثٍ عادٍ في الحياة مع فارق بسيط أن الضّوء مُسلّطٌ عليه هنا، والثّقافة لا تولد في الإنسان هكذا، ليست حبّة دواء يأخذها الشّخص وينتهي الأمر، فهي حالة ملاصقة لشخصيّة المقدّم حيث يُطلب منه الاطلاع الوافي على أهمّ ما يجري من أحداث في العالم، وعلى وجه الخصوص الموضوع البرامجي المُختصّ بتقديمه، وهذه الصّفة مستمرة، لا يجب أن تتوقف، فالاستزادة المعرفيّة هنا هي المطلوبة.

البديهة الحاضرة فوراً
تتطلّب مهنة تقديم البرامج الذّكاء والبديهة، وهذه ملكة قد تكون ربّانيّة، لكن الاطلاع والمعرفة يمكن أن تعدّلا قليلاً من البرود لدى بعض المقدّمين مع مرور الوقت، ويمكن ربط هذه النّاحية بما سبقها، فبالتّدريب قد يتمكّن المقدّم من اكتساب مرونة معيّنة في التّعامل مع أيّ غلطة طارئة أثناء تقديم البرنامج، لا سيّما برامج البثّ المباشر، وألا يكون أيّ طارئ هو مصيبة بالنسبة له، بل يجب عليه التّعامل مع المسألة وكأنّه المنقذ للسّفينة في حال استعصى العطل على مهندسيها لأنّه ربّان حقيقي.
هذا هو مقدّم البرامج، هكذا يجب أن يكون، وهكذا تحبّه النّاس، وبغير هذه المواصفات لن يكون ما نراه مقدّم برامج بل ببغاء مثلاً أو صورة على زاوية من حائط يجب أن تستر عيباً ما فيه، أو وسيلة لتعبئة ساعة بثّ في التّلفزيون، أو سمّوها ما شئتم لكن لا تسمّوها برامج تلفزيونيّة لأنّها تفتقد لأهمّ عنصر حيوي فيها، وهو مقدّم البرامج.
هل هؤلاء الذين تجاوزا هذه الملكات قد نجحوا فعلاً؟!
هذا هو السّؤال المُلح اليوم، إذّ أنّنا نجد قائمة طويلة من أسماء البرامج والمقدّمين لكن مع كلّ أسف لن يرقى أيّ منهم للمكانة والغاية المرجوّة من مهنة تقديم البرامج، فهل اغتصاب هذه المهنة بات مباحاً لهذه الدّرجة؟! وهل التّلفزيون هو ملك شخصي ليظهر فلان أو فلانة بعلاقته وقرابته لمسؤولٍ ما في هذا المكان أو ذاك؟! إنّ كلّ هذا لا يبشّر خيراً في مهنة تقديم البرامج، والتي شوّهت وبدأ الجمهور يتناسى أهميّتها بل وينجذب لأيّ ممثل مكلّف بمهنة تقديم برنامج مسابقات، وإن لم يكن نجماً من نجوم الصّف الأوّل، ناهيك عن الأخطاء التي يرتكبها أثناء التّقديم، ويتجاوزها الجمهور لأنّ الممثل التّلفزيوني قد صنع لنفسه مكانة محبّبة مسبّقاً في الشّعور الجمعي للجمهور، ومن ناحية أخرى تتنامى محبّة الجمهور لمن يطرح نفسه “بلوغرز” أو يوتيوبر” على مواقع التّواصل الاجتماعي المعروفة، حيث يساهم بصورةٍ غير مباشرة التّعدّي المستمر على مهنة التّقديم التلفزيوني في بناء تلك المحبّة، وبالتّالي هجر برامج التّلفزيون.

لا بدّ لنا من ذكر نقطة حساسة جداً، حتى نفي الموضوع حقّه، وهي أن هناك أناس تفوّقت، ولا علاقة لها بالتقديم التّلفزيوني مثل “ستيف هارفي” مثلاً، وهو ممثل لا يفقه في التّقديم شيئاً لكن الجمهور أحبّ ظهوره، ومع مرور الوقت اشتغل على نفسه ليكون من أنجح مقدّمي البرامج على مستوى عالمي، ولكن مثل هذه الظّاهرة تكون محدودة، ولا يمكن أن تكون قاعدة يُقاس عليها.
في النهاية الجمهور هو من يحكم على مقدّم البرامج إمّا بإهماله والابتعاد عنه كليّاً حتّى ولو حجز لنفسه كلّ ساعات البثّ بالواسطة، أو بالتّعلق به ليصبح وجبته التي لن يتخلّى عنها، وسيطالب بها بقوّة في حال غيابها.