أحدث المقالاتمواهب واعدة

بين الماضي والحاضر … مفارقات تُهدّدُ عواطفنا الاجتماعيّة

بِتنا نملكُ قدراً ضَئيلاً من الكلمات والأحاديث

الألفة والمودّة الّتي احترفنا ممارستها، أَوشكت على الانتهاء

هديل مزهر

لم أَكُن أنوي الكتابة عن هذا الموضوع، غير أنّ الفكرة هاجمتني، ولم أستطع كبح جماحها، وهذا بعد أن هاتفتني صديقتي، مُعاتبةً إيايّ على إهمالي، لأنّني نسيت أن أرسل لها تهنئة بيوم ميلادها، على صفحتها الخاصّة على “فيسبوك”، مصحوبة ببعضِ الصّورِ التي تجمعني وإيّاها.

هل جفّ حسّ الصّداقة بداخلي يا ترى؟!

لا، فأنا قمت بواجبي معها من خلال اتّصال هاتفيّ، بشكلٍ خاص، في ليلةِ ميلادها تلك، حتّى أنّني عمدت إخبارها وبشكلٍ خفيّ، أنّها في ذاكرتي، وأنّني أحرصُ على إعطائها جزء من وقتي لسماع صوتها.

إلّا أنّ ذلك لم يكفِ، عندها اقتحمت عقلي مفارقات كثيرة بين الماضي والحاضر، تفاوتٌ كبير يكشف مدى سيطرة التّفاصيل السّطحيّة على ما هو عميق اليوم.

حيثُ أنّنا لم نعد نتكبّد العناء، لسماع صوت أصدقائنا مثلاً، أو الذّهاب لرؤيتهم والاحتفال معهم بيوم ميلادهم، بل أصبحت المحبّة تقاسُ بمنشورٍ “فيسبوكيّ”، بارد اللهفة، يشهدُ بكلِّ قواه الافتراضيّة، على صدقِ مشاعرنا.

حتّى في الأعيادِ الدّينيّة، والمناسبات الرّسميّة، باتت تمنيات الخير لبعضنا البعض، لا تتعدّى حدود رسالة عامّة، نرسلها للجميع “بكبسة زر”، من دون التّدقيق على أسمائهم، الأمثلة كثيرة، والحديث يطول.

مفارقات تُهدّدُ عواطفنا الاجتماعيّة

غير أن اجتماعات العائلة، تكاد لا تخلُ من البعد، إذْ بدأنا نوثّق كلّ حركة، وأكلة، وشربة، بصور الـ”سيلفي”، المبالغ فيها، على الرّغم من بساطةِ الّلحظة بجمالِها الطبيعي، من دون تجميدها داخل إطار، فترانا نركض خلف الحداثة، بلهثةٍ ولهفة، على أمل أن نضاهيها حنكةً.

ومن أخبركم أن ثغرات عواطفنا مستقبلاً، تملؤُها الصّور؟!، فالصّور لا تفي بالحنين، هي ليست أكثر من وجبةٍ خفيفة، لإسكاتِ جوع الاشتياق.

فأنا، لست ضدّ التّكنولوجيا، والتّطوّر، والحداثة، بمضمونها الإيجابي، والمسخّر لخدمتنا، ولست ضدّ فكرة تقارب المسافات، التي وفّرتها مواقع التّواصل الاجتماعي، بل ضدّ أن تطفو “قشور هذا التّطوّر فقط”، على سطحِ عقولنا و سلوكنا، خاصّة في ظلّ ما خلّفته الحروب من انهدامٍ للكثيرِ من المبادئ الأساسيّة في الحياة.

يمكننا القول: أنّهُ أصبحَ بمقدورِ معظمنا أن يشكر الله، على امتلاكه ذكريات، عن ماضٍ مفعم بشيء من الألفة، والسّلام، والوفاء، يسكت بها جوع الأيّام، فنحن نمرُّ بحاضرٍ، يبشِّرُ المستقبل بقحّطٍ شديد في الذّكريات، ونقص هائل في مخزونِ السّلام، والأوفياء، ووباء الافتقار.

بذلك يغدو امتلاك ذكرى، يعادل امتلاك الأثر والوجود.

مفارقات تُهدّدُ عواطفنا الاجتماعيّة

ريتينغ برودكشن

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى