معاناتنا تَفوز بجائزة دوليّة ..

ربّما لم تكن بيوتنا الدّمشقيّة ذات الأسقف المفتوحة، وأدراجها المرصوفة، وغرفها المستقلّة بالأثاث المُصدف النادر ،
ربّما لم تكن بحفاوة معاناتنا الأخيرة، لتنالَ جائزةً دوليّةً.
رائحةُ اليّاسمين المعرِّش في شوارع دمشق هُمِشَّ أمام معاناتنا اللّافتة،
وكأنّ سنواتنا الدّاكنة بدأت تأخذنا لمسارح التّألّق،
من بوابة القهر والفراق. ومؤخراً، بينما كنتُ أتصفّح مواقع الأخبار، لفتني خبرٌ مفادهُ:
“فازت صورةٌ بعنوان “مشقةُ الحياة” لأبٍّ سوريّ، مبتور السّاق، يحملُ طفلهُ المولود من دون أطراف
بجائزة “سيينا” الدّوليّة لصورة العام هذه السنة”.
كان الخبر مؤلماً للغاية، ليس لأن صورة الأبّ وابنه تعتصر الكيان ألماً وحسب،
بل لأن العالم بات يحتفي بألمنا على هيئة جوائز.
اعترتني الذّكريات، على الفور، لأيّام أمضيت وقتاً فيها أمشي في شوارع هذه المدينة،
لذكرياتٍ احتفيت فيها بالكتب، والمجلدات، التي اشتريتها من مكتباتها،
ولمواقف كثيرة حدثت معي هناك.
أخذني الموقفُ لبديع إنجازاتِ الشّباب، لمعارض الفنّ، والمسرح، ومعاقل الإبداع، وأخذني في نفس الوقت،
مقارنةً، باتجاه أماكن تجمّعتْ فيها القوارب لتأخذ النّاس وأطفالهم، ببدلات نجاةٍ باردة نحو أعماق البحار.
نجى من نجى، ومن كان جريحاً حُمّل لشتات القهر المُنتظر،
وكذلك من لم يُصب إصابةً ظاهريّة لكنه يخزن حزناً عميقاً في دواخله، افترشوا الغابات،
ولاكت أسنانهم الدّمع مع العجين، حتى وصلوا لمقاصد تقيهم شرّ الحرب،
لا لنحصل على جائزة أجمل رجلٍ معجون بالطّين، أو جائزة طفلٍ جميل في مخيّمٍ بارد،
وغيرها من الصّور التي لن تنتهي من الذّاكرة.

كانت اللّحظات بين قراءة الخبر، ورؤية الصّورة، أشبه بلحظاتٍ تجعل من الألم يتمركز في حنجرتك بينما أنت تعتصرُ الدّمعة،
فقد اعترت جسدي آهاتٍ، وسلبتهُ أمانه، كتلك التي تعتريك الآن،
وكأنّ سوريّتي من شمالها لجنوبها سجدت، باكيةً الصّورة، كارهةً الحرب.
معاناتنا تَفوز بجائزة دوليّة
لقد أعادتني تلك الصورة لمدرستي القديمة، للحيّ العتيق، وإلى الكوميديا السّوداء في مسلسل “ضبّوا الشناتي”،
فأيّ عدالةٍ كانت لتضعنا في منصّة الجوائز، من سُلّم الفقد، والشّتات؟!
وبتنا سوريين في كلُّ مكان، مُهجرين، لاجئين، ناجحين، فاشلين .. إلخ، جميعنا المُكرمين اليوم.
أعتقدُ أن الصّورة المأخوذة في الجنوب التّركي، لذلك الأبّ وابنه، تشكّلُ حالةً إنسانيّةً لافتة،
فالأبّ المبتور السّاق لم تعجز الحياة أن تسرق من عيونهُ بهجة التّبسّم،
بل تراهُ يداعبُ بين ذراعيهِ ابناً لهُ يعاني أيضاً من تشوّهاتٍ خلقيّة، سلبت منه أطرافه جميعها،
وقد عجز فيها المسؤول عن اختيار صورة العام أن يتجاوز هذا الكمْ من الألم في صورةٍ واحدة، فكُرّم على صورتهِ،
واحتفى العالم بطولهِ وعرضهِ بمعاناة رجل.
تناقلت الصّحف العربيّة والدّوليّة صورة الأبّ، وبعض المحطّات الأخباريّة استقبلتهُ في شاشاتها لنقل الصّورة بشكل أكبر،
وأكثر من جريدةٍ ومقال، وكان الأبّ وابنه في كلّ مرّةٍ يخرجون فيها على العالم لتتويج الصّورة بطريقةٍ أكثر وضوحاً،
كانت الدّمعة تسافر من عين الوالد الأولى لشقيقتها، متشبّثة بالتّصلّب، والثّبات،
وكأنّه توجّب عليه أن يُتاجر بمعاناتهِ على أمل إيجاد من يعطفُ على ولده، فيساعدهُ في طرفٍ اصطناعي يعينهُ على حياته
كرّرها الأبُ أكثر من مرّة في المقابلة: “أنا تعوّدت الفقد اللي بجسمي بس ابني بحاجة مساعدة”.
كلماتهُ التي خرجت من الشّاشة لم تكن أقلّ ألماً من الصّورةِ الأولى،
فالمعاناة عندما تكون متلازمةٌ مع العوز، وقلّة الحيلة تكسرُ ظهر صاحبها،
لتجعلهُ مُطأطأ الرّأس في جميع خطواتهِ.
ربّما الآن يتوجّب عليَّ الاعتذار لصاحبِ الصّورة عن مقالي هذا، الذي أصبح واحداً من عشرات المقالات المكتوبة عن الأمر،
وعجزت عن المساعدة، لكن قد يصل صوتي لأحدٍ يسعفهُ ضميرهُ، فيحاول الوصول لسوريٍّ، أخذت منه الحرب كلّ ما يملك،
ونصّبتهُ صورة أخيرة فائزاً بمعقلٍ دولي، فيمدّ اليد له قائلاً: “نحنا لبعض لا تقلق”.
