مسلسل الهيبة والضّحك على الذّقون – 2 –
شيخ الجبل “علمدار” العرب

مسلسل الهيبة والضّحك على الذّقون
لن نتعجّب أبداً عندما أُعلِن مؤخّراً عن ترجمة مسلسل “الهيبة” إلى اللّغة التّركيّة،
كيف لا وهو النّسخة المعرّبة من شخصيّة “مراد علمدار” في مسلسل “وادي الذّئاب” التّركي، والذي تمّت دبلجته، وعرضه على الشّاشات العربيّة، لكي تكتسب دراما المافيات طابعاً دوليّاً،
إذّ يبدو أن عمليّة تصدير واستيراد القتل والثّأر صار واجباً إنسانيّاً وضروريّاً لتقدّم الشّعوب وزيادة تطوّرها، ولا يجوز التّقصير فيه وإلا سيحلّ بنا الخزي والعار، كما هو حالنا في باقي ميادين الثّقافة!
تشدّد الحلقتان الثّالثة والرّابعة، كما هو الحال في المواسم السّابقة، على ضرورة الاقتداء بشخصيّة “شيخ الجبل”، فهو النّموذج الفنّي المثالي الذي يجب تكريسه والاقتداء به عربيّاً،
والمقصود بالنّموذج هو إجراء عمليّة نمذجة فنيّة، أيّ تحويل شخصيّة حيّة من الواقع، وتجسيدها في عالم الفن،
وهذا ما يفعله جميع الكتّاب سواء أكانوا في مجال القصّة أو الرّواية أو السّينما أو التّلفاز.
متى تبدأ الكوارث؟ عندما لا يصوّر الواقع إلا وفق قالب محدّد ومنحاز،
فيتمّ تهميش كلّ الشّخصيّات الإشكاليّة الحقيقيّة في الواقع، والتّركيز على نمط واحد أو نموذج شاذّ واحد، من دون غيره،
وتصويره على أنه البطل المغوار الذي لا يرضى الذّلّ والسّكوت على الضّيم، ويا الله من هذا النّموذج الباهر المشرّف!
يكشف لنا هذا الموسم الجديد الوجه الثّاني لشخصيّة جبل
فقد كان في الأجزاء السّابقة حامياً للهيبة، ومناصراً للمظلومين، ومدافعاً عن بيت العيلة من الغدر والدّسائس،
ليصبح الآن قائداً لميليشيا مسلّحة، تنزل إلى ساحات بيروت، وتعلن حرب شوارع، وذلك كلّه من أجل تأكيد مسيرة الانتقام، والذي “لا يريح النّفس” مهما بلغ درجته على لسان بطل المسلسل “جبل”، ومع انتفاء هذه الرّاحة،
تبقى وتيرة التّصعيد، والهجوم، والضرب، والتّخريب، والعنف، تزداد في حلقة كاملة تقريباً، والأغرب من هذا كلّه أنّ الإقرار بعبثيّة الانتقام، والضرب قد جاء على لسان صاحبها “جبل”، ولم تأتِ من حكم المشاهد المسكين!
أهذا هو النّموذج الفنّي الذي يتمّ تكريسه يا حضرة المنتج؟ قاطع طريق خارج على سلّطة القانون؟
ماذا يعني أن تهاب أجهزة أمنيّة كاملة من ميليشيّات “جبل” المسلّحة، وتتّصل به لأخذ الإذن بالتّدخل فيمتنع الأخير عن توقيف حربه الشّعواء، معبّراً عن استهزاءه من القانون في نهاية مكالمته مع الضّابط العسكري، فيقول:
“ومن عندي بضربلك التّحيّة!” والأنكى من هذا كلّه، عندما يذكر مكان حدوث هذه الحرب الجنونيّة، ألا وهو لبنان،
مع العلم أنه مع بداية كلّ حلقة يتمّ نفي ارتباط الشّخصيّات، والأحداث، بالواقع، وإن وُجدت الصّلة فهي من محض الصّدفة.
نعم إنّها من المصادفات العجيبة بأن تكون هذه الأحداث في لبنان، والقاصي والدّاني يعرف ما الذي يجري في لبنان من نكبات وأزمات.
قد يتشدّق أحد القارئين، ويقول: أليس مهمّة الفنّ تصوير نكبات الحياة عند الشعوب؟ أقول:
نعم هذه هي الوظيفة السّامية للفنّ، ولكن عندما يصبح الفنّ منبراً لزيادة جرعة الإثارة الحسّية التي تخدّر عقل المشاهد،
وتجعله يتورّط مع الحدث من غير البحث عن الأسباب، والحلول، فتلك كارثة الكوارث!
إن الدّراما الحقيقيّة هي التي تحرّض المشاهد على التّفكير، ولا تجعل عقله مشلولاً بأصوات الرّصاص،
ومشاهد قطع الرّؤوس، والرّغبة الجامحة للانتقام، كما أن الدّراما الحقيقيّة هي التي لا تنحاز فقط إلى صوت واحد،
وتقدّسه، وكأنّه المدافع المثالي عن الحقّ، والخير، والجمال!
يتبع…
