أحدث الأخبار الفنيةأهم المقالاتإقرأاخبار فنية عامةالمقالات عامةبقلم رئيس التحريرسلايد اخبار فنيةفـــن

“مارلون براندو”: مهنة التّمثيل هي الكذب

“كلكم ممثلون لأن مهنة التمثيل هي الكذب، وكلكم كاذبون…الفرق بيني وبينكم أنه يُدفع لي كي أكذب…”

رئيس التحرير: عامر فؤاد عامر

لم تكن حياة النّجم “مارلون براندو” حياة عادية كحياة أيّ نجمٍ يولد، ويضيء، ثم يخبو مع مرور الوقت، فقد كانت عدم اعتياديّته تتجلّى في مسارٍ اختاره بسبب مواقف اتّخذها إزاء كلمة الحقّ، في إدانة العنصريّة الأمريكيّة تجاه الهنود الحمر وموقفه مع فلسطين، وهذا ما كلّفه غالياً، لا سيّما في نهاية حياته، إذّ أمضاها في عزلةٍ وانكماش عن العالم، بسبب معاداتهم له، ومحاربته تدريجيّاً وصولاً إلى لقمة عيشه.

مارلون براندو
مارلون براندو

ما زلنا نذكر هذا الفنّان الحقيقي الذي رفض استلام جائزة الأوسكار عن دوره “دون فيتو كورليوني” في فيلم “العرّاب” في العام 1972، وذلك بسبب التّدمير الأمريكي الممنهج تجاه الهنود الحمر، السّكان الأصليين للبلاد، حيث بلغت به الشّجاعة أن صعدت إلى المسرح بالنيابة عنه امرأة هنديّة الأصل، هي الممثلة “ساشين ليتل فيزر”، وقرأت ما كتبه “مارلون” معاتبةً البشريّة في هذا الحفل، فكيف يعيش قوم على أراضٍ لا يمتلكون حقّ العيش فيها؟ وتأتي شركات وأفلام هوليوود لتدعم النّظرة وتُظهرهم بصورةٍ سيئة، مساهمةً في شرعيّة تدمير حياة قومٍ بأكملها!

مارلون براندو
رفض مارلون براندو للأوسكار

كان هذا الموقف اللافت والمفاجئ من أقسى الصّفعات في تاريخ أمريكا، التي تنادي باسم الحريّة زيفاً.

لكن “براندو” ذو الأصول الإيرلنديّة له تاريخ وباع طويل في الإنجاز، والتفوّق، ونصرة القضايا الإنسانيّة، قد لا يسعنا هنا سوى المرور على بعضٍ منها، ومن الجدير ذكره أن مجلة “تايم” في توثيقاتها لأهمّ شخصيّات القرن العشرين، المؤثّرة في النّاس، اختارت هذا النّجم كواحدٍ من ثلاثة ممثلين محترفين فقط، على مستوى العالم، مع “تشارلي تشابلن”، و”مارلين مونرو”.

مارلون براندو

تأثّر هذا الممثّل كثيراً بمدرسة “قسطنطين ستانسلافسكي”، وكان أوّل دور قدّمه “براندو” في حياته تجسيّد السيّد المسيح في مسرحيّة “هانيل” لـ”جيرارت هوبتمان” في العام 1944، والدّراسات تشير إلى أنه أوّل من ثار على طريقة التّمثيل أمام الكاميرا في هوليوود، والتي كانت محدّدة القواعد وضيّقة، ولولا ثورته تلك لما وُلِدَ نجوم أمثال: “روبيرت دينيرو”، و”ألبتشينو”، وغيرهما.

من مواقفه التي لا بدّ من التّعريج عليها المشاركة في مسرحيّة “ولادة علم” في العام 1946، والتي لمّحت بشكل صريح إلى تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين، وبعدها مباشرةً انضم إلى “الاتحاد الأمريكي لفلسطين الحرّة”.

اتُّهم “مارلون” بمعاداته للسّاميّة، إثر تصريحه في البرنامج الشهير “لاري كينج لايف”، إذّ قال بكلّ وضوح أن اليهود يديرون استديوهات هوليوود، ويتحكمون بملكيتها وتوجّهات أفلامها، واعترض على عدم إظهار يهود هوليوود التّعاطف الكافي تجاه الصّورة السّلبيّة للأقليّات العرقيّة مثلما يفعلون مع أنفسهم كأقليّة، وبسبب هذه التّصريحات وغيرها، أُجبر فيما بعد على الاعتذار من اليهود، لكنه بقي على احتجاجه تصوير اليهود الدّائم كلطفاء ومحبين للسلام والخير وكأنهم من كوكب آخر، وبدورهم استمروا في العداء بطرق مختلفة، وتشير بعض التوثيقات إلى أنهم اخترقوا عائلته وتسبّبوا في تشتيتها، وكذلك شركة الإنتاج الخاصّة به، فقد أسّس في مرحلة لاحقة شركة إنتاج خاصّة به، كنوعٍ من إيجاد الاستقلاليّة لفنّه بعيداً عن تحكّم اليهود في الصناعة، سمّاها شركة “بينيبيكر للإنتاج”، نسبة لاسم والدته، وظهر “براندو” كمخرج لأوّل مرّة في فيلم “جاك ذو العين الواحدة”، كان ذلك في العام 1961، ولا ننسى أن هذه الشركة عانت ما عانته حتى استطاعت أن تنتج أفلامها، ولم يكتب لها النجاح كثيراً، كما أعلنت إفلاسها بعد سنوات قليلة من وفاة “براندو”.

مارلون براندو
العراب

لا بدّ من المرور على مرحلة السّتينات في حياة “براندو” حيث قدّم فيها مساهمةً لإنهاء التمييز العنصري، والظّلم الاجتماعي بالاشتراك مع حركة الحقوق المدنيّة، وذلك إثر مقتل “مارتن لوثر كينج”، وانقطع وقتاً عن التمثيل بسبب ذلك.

بالعودة إلى تجربة المسرح، وبالتحديد مسرحيّة “عربة اسمها الرّغبة” لـ”تنسي ويليامز” أخذ “براندو” أداؤه لشخصيّة “ستانلي كوالسكي” من الخشبة إلى الشّاشة الكبيرة في فيلم بنفس الاسم في العام 1951 وعُدّ هذا الدّور واحداً من أهمّ الأدوار التي رفعت من شأنه كممثل لدرجة أنه أصبح مباشرةً رمزاً جنسيّاً للذّكورة في هوليوود، كما منحه هذا الدّور ترشيحه الأوّل لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل.

فيما بعد أصبح هذا الممثل أيقونة ثقافيّة مكرّمة في كلّ ثقافات العالم، فهو ممثل، ومخرج، وناشط، ومنتج أمريكي، حقق أرقاماً مذهلة من حيث إعجاب الجمهور به، وجوائز من أهمّ مهرجانات السّينما العالميّة في وقتٍ مُبكر، ولن نذكر هنا الجوائز التي حصدها في مسيرته الفنيّة، لأن “مارلون براندو” هو الجائزة بعينها، فلا تكريم يليق بهكذا شخصيّة حرّة، ولا المهرجانات استطاعت استيعاب مشروعه على الإطلاق.

مارلون براندو
براندو رمز الذكورة في هوليود

وكثيرة هي الأفلام التي جسّد فيها “براندو” هموم تخصّ النّاس، والتّعريج على بعض منها ليس إلا سبيل المثال، فدوره في “على الواجهة البحريّة” لم يكن سوى طرح لمعاناة فئة مُعدمة تعمل في موانئ أمريكا، وتعاني الأمرين من الفقر ومن تحكم طبقات أخرى في مصيرها وحياتها اليوميّة،  أمّا في العام 1952 فكان فيلم “فيفا زاباتا” وهو عن سيرة حياة الثّائر المكسيكي “إيمليانو زاباتا”، حيث تحدّث الفيلم عن نشأته القرويّة، وصعوده إلى السّلطة في أوائل القرن العشرين ثم وفاته، ومن الملفت للانتباه أن معظم النّقاد ركّزوا على الممثل بدلًا من الفيلم! ما يدلّ على كاريزما الممثل وقدّرته في التّأثير، ولا ننسى ما قدّمه في العام 1989 وكان واحداً من أهمّ أعماله “موسم أبيض جاف” الذي يتحدّث عن التفرقة العنصريّة في جنوب أفريقيا، وكان من المحرّم التطرّق لهكذا مسألة حينها.

أدائه شغل أقلام الصّحافة فأحياناً تتفق على رأيٍّ، وأحياناً لا، كما حصل معه في العام 1953 ودور “مارك أنطوني” في فيلم “يوليوس قيصر”، أو حتى فيلم “التانغو الأخير في باريس” في العام 1972، وعلى الرّغم من ذلك وُضِعَ “براندو” في المرتبة الرّابعة من قبل معهد الفيلم الأمريكي في قائمته 100 عام و100 نجم بين نجوم السّينما الذّكور، الذين ظهروا لأوّل مرّة على الشّاشة، واستمرّوا في التّأثير على الجمهور.

مارلون براندو
عراب السينما

ما يسمى بـ”واسطة العقد” بين أفلام “براندو” كان فيلم “العرّاب” أو “الأب الروحي” الذي جاء في العام 1972، من إخراج “فرانسيس فورد كوبولا”، ويمكن القول بأن خطّ هذا الفيلم السينمائي جعله كالأيقونة بالنسبة للجمهور، بل بعض المهووسين يعدّون “العرّاب” مدرسة التّمثيل التي يتعلّمون منها فنّ الأداء، وهندسة عضلات الوجه، وكيفيّة الابتسام مع البكاء، وإعطاء الأوامر مع مداعبة القط في نفس الوقت، فهو كالبوصلة لأيّ ممثل بسبب الأداء المبهر لهذا الفنان، وعديد من شركائه في هذا العمل، فقد أخرس هذا العرض السّينمائي نجوم كبار في الشّاشة، وفتح الطريق أمام “مارلون” ليكون السيّد، الذي لن يتفوق عليه أحد، وقد بات عملاقاً لكلّ من يدخل هذه المهنة ويدرس تفاصيلها.

حصل “براندو” في العام 1979 على ظهور آخر أمام كاميرا المخرج “كوبولا” في فيلم “Apocalypse Now ” أو “القيامة الآن”، ويعدّ من الأفلام المهمّة جداً في الموضوع والرّمز السّينمائي، على الرّغم من عدم الرضا الكبير الذي لاقاه “براندو” أثناء تصوير الفيلم وعرضه، بسبب تقدّمه في السّن على مهنة تحتاج المرونة الحاضرة دائماً.

بعد غياب آخر عاد في العام 1990 مع دور في فيلم “المبتدئ”، حيث نجد “براندو” في الأداء الكوميدي ومتقدّماً في العمر بوضوح أكبر، وعدم اهتمامه للكاميرا وأدائه عموماً، لكنه بشكلٍ أو بآخر كان ناجحاً وساحراً في عدد من المشاهد.

الظهور التّمثيلي الأخير في السّينما لهذا الفنان الكبير كان في العام 2001 مع فيلم “النتيجة” والنجم “روبرت دينيرو”، الذي كان ينافس على لقب “براندو الجديد” في مرحلةٍ ما.

مارلون براندو
براندو وآخر فيلم وكان مع روبيرت دينيرو

عاش “مارلون براندو” السّنوات الأخيرة من حياته في عزلة تامّة، وعانى من الوزن الزّائد أكثر من أيّ مرحلة سابقة، ومع اقتراب نهايته قرر أن يُعدّ ترتيبات وفاته بنفسه، بعد أن أبلغ أصدقاءه وأسرته، إنه مستعد للموت، وكان رحيله في الأوّل من تموز/ يوليو من العام 2004 بسبب فشل رئوي عن عمرٍ ناهز الـ80 عاماً، وقد أمضى حياته في دار عجزة تابعة للدّولة مثله مثل كلّ الفقراء والمعوزين هناك، بعد أن قضى سنوات عمرٍ تميّز خلالها بالحماس، والتمرّد، والنفس الثّوري سواء في حياته الفنيّة أو الشّخصيّة.

مارلون براندو
مارلون براندو أيقونة السينما

لا بدّ أن نعلم أن هذا الفنان الكبير “مارلون براندو” وعلى الرّغم من كلّ اسهاماته البارزة في السينما إلا أنه كان يكره مهنة التّمثيل، وعبّر عن مشاعره حيالها بكلّ صراحة، وفي أكثر من مناسبة، ومما قاله نقتطف: “هل سيهتف لي الجمهور لو كنت أعمل سباكًا؟!. التمثيل بالنسبة لي طريقة لتأمين العيش، الكذب لكسب الرزق، هذا هو التّمثيل، كلكم ممثلون، وكلكم بارعون، لأنكم جميعاً كاذبون، عندما تقول شيئاً لا تعيه أو تحجم عن قول ما تعيه، ذلك هو التمثيل، إذن جميعاً نُمثّل، لكن بعض النّاس يُدفع لهم مقابل ذلك مالاً”.

ريتنغ برودكشن

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
2 تعليق
الأحدث
الأقدم الأكثر تصويت
Inline Feedbacks
عرض كل التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى