أحدث المقالاتأهم المقالاتإقرأاخبار فنية عامةالمقالات عامةسلايد اخبار فنية

لم ينتهِ الحديثُ عنك يا حاتم

المبدعون لا يموتون

د. مأمون علواني في حوار خاصّ بمناسبة ذكرى رحيل المخرج حاتم علي

لم ينتهِ الحديثُ عنك يا حاتم

إعداد: د. فاطمة أحمد

– يقالُ إنّ الحرّيّةَ هي أساس الإبداع، من وجهة نظرك دكتور مأمون، كيف استطاعَ المخرج حاتم علي رحمه اللَّه أن يعبّر عن رؤيته الفنيّة والفكريّة بحرّيّة في أعماله الدّراميّة، ولاسيّما أنّنا نعاني في بلادنا العربيّة الكثير من الضّغوطات السّياسيّة والاجتماعيّة؟ 

نعم الحريّة هي أهمّ عنصر من عناصر الفلسفة والبناء والحضارة، فإن لم تكن حرّاً لا تستطيع أن تعمل شيئاً. والحقّ يُقال، لقد تعامل حاتم علي رحمه اللَّه مع الحرّيّة بشكلٍ مختلفٍ عن النّاس؛ لأنّ الحرّيّة عملة لها وجهان: خارجيّ وداخليّ. فالخارجيّ كما تعلمين هي الضّغوطات التي تأتي من السّلطة الإعلاميّة سواء أكانت من قبل الوزارة أم المنتجين أم المسؤولين على التّلفاز أم المستثمرين…إلخ. وهناك في المقابل الحرّيّة الدّاخليّة أيّ الشّخصيّة، فإذا كان المرء يمتلك حرّيّة ذاتيّة قويّة لن تتمكّن الضّغوطات الخارجيّة استلاب حرّيّته الخاصّة به، بمعنى آخر قد تعامل حاتم علي رحمه اللَّه مع هذه المساحة الحسّاسة جدّاً بشكلٍ دقيق. فإن لم يكن مقتنعاً بأمرٍ ما من كلّ النّواحي سواء أكانت من أساسيّات العمل أم من كماليّاته ابتداءً من النّص إلى آخر لقطة فنّيّة في العمل فإنّه يعلن رفضه على الفور. كان رحمه اللَّه حرّاً لدرجة أنّه لم يكن ينصاع وراء المال ولا وراء التّجارة بالاسم واللقب أو التّجارة بالفنّ والإخراج ولا حتّى الانصياع وراء الأسماء الفنّيّة الكبيرة لبعض الشّخصيّات إلّا ما ندر. فمثلاً عندما كان أحد الممثّلين يناقشه في تعديل جملة من الحوار لسببٍ ما فكان يقتنع بالمنطق ويتغاضى قليلاً. ولكن لو قيل له أن يشرفَ على عمل دراميّ تافه أو دون المستوى المطلوب أو حتّى عاديٍّ متوسّط لم يكن يوافق ويعلن رفضه فوراً، ليس عناداً أو تكبّراً، بل لثقته بنفسه وقدراته وإيمانه بقوّته الذّاتيّة، فقد كان رحمه اللَّه يتمتّع بقوّة الشّخصيّة في داخل العمل الدّرامي وخارجه. كما أنّه كان إنساناً محترماً جدّاً. أذكرُ أيضاً أنّه كان يضيف على العمل الدّراميّ الذي يخرجه إبداعاً على مستوى الفنّ والفكر معاً. وأعماله الفنّيّة خير شاهد ودليل على ذلك. وفي حال وجد أيّ ضغط سياسيّ أو اجتماعيّ أو فكريّ فإنّه لم يرتبط باسم وشخص حاتم علي رحمه اللَّه. لقد كانت الضّغوطات تفعل فعلتها مع باقي المخرجين أو الذين يعملون في الوسط الفنّي، على العكس من حاتم علي الذي كان بعيداً عنها كلّيّاً. لماذا؟ لأنّ قوّته الدّاخليّة كانت كافية لأن يقول كلمة: (لا).

إنّ كلمة لا صعب جدّاً قولها في بعض الجوانب والأماكن داخل الوسط الفنّي، وذلك لأسباب عدّة تتعلّق بالرّكض وراء لقمة العيش وضرورة إرضاء كلّ الجهات من أجل الاستمرار في العمل. في حين أنّ حاتم علي لم يكن يهتم بهذه الأمور عندما كان يقول كلمة لا. والسّبب في ذلك ليس لأنّه يمتلك المال الكثير أو أنّه صاحب ثروة. أبداً على الإطلاق، بل لأنّ شخصيّته الفريدة كانت كذلك من حيث القوّة والثّقافة والمعرفة.

لم ينتهِ الحديثُ عنك يا حاتم

– يقول حاتم علي رحمه اللَّه: “الأموال الكثيرة لا تعني بالضّرورة عملاً فنّيّاً متميّزاً” كيف تشرح لنا هذه المقولة في ظلّ ما نشاهده الآن من إنتاج أعمال دراميّة باذخة ومكلفة جدّاً؟

بالتّأكيد إنّ كثرة الأموال لا تصنع عملاً فنّيّاً متميّزاً، ولا تصنع أيضاً فريقاً قويّاً. ليست الأموال سبباً في النّجاح، بل من يسيّر هذه الأموال ويشرف عليها ويوظّفها في أماكنها الصّحيحة هو سبب النّجاح. ثمّة أناسٌ كثيرون تنطبق عليهم هذه القاعدة، كذلك دولاً غنيّة تمتلك أموالاً طائلة لكنّها لا تصنع حضارة أو مجداً، في حين أنّ هناك دولاً كانت أحوالها المعيشيّة كارثيّة، لكنّها استطاعت أن تصنع حضارة. حتى بالنّسبة للأعمال الفنّيّة الدّراميّة التي يُصرف عليها الأموال الطّائلة فإنّها لم تستطع صنع النّجاح هكذا لوحدها. خذي مثلاً قنوات كبيرة قد تطلب عملاً فنّيّاً محدّداً فيُصرف على تكلفته الملايين بهدف توصيل رسالة معيّنة للجمهور مع أنّ الجمهور ربّما لا يستسيغه أو يعجبه.

والواقع أنّ حاتم رحمه اللَّه اشتغل أحياناً بالقليل من المال أعمالاً دراميّة رائعة انتشرت عربيّاً. لا أريد الآن أن أشرح من هو حاتم علي، وما هي مكانته بالنّسبة للكوادر الفنّيّة، والممثّلين، وجميع من عمل معه في الوسط الفنّي. فهو لا يقبل أبداً أيّ أداء دراميّ تافه أو ساذج. بالإضافة إلى ما سبق قد كان يتعامل مع جميع الممثّلين والممثّلات، ويستدعيهم إلى أعماله من غير أيّ تمييز على عكس بعض المخرجين الذين لا يتعاملون إلّا مع ممثّل واحد، وكأنّه لصيق به.

لقد بدأ حاتم علي رحمه اللَّه رحلته الفنّيّة من الصّفر فكان بسيطاً، ولا يملك ربّما سوى بنطالٍ واحد، وهو آتٍ إلى دمشق من هضبة الجولان ليكافح دراسيّاً ومهنيّاً من أجل الدّخول في أعمال دراميّة. فبدأ بالتّمثيل، ثم اتّجه نحو الإخراج فأبدع فيه مع الحفاظ على تأدية بعض الأدوار الفنّيّة بين الحين والآخر. لقد خلق حاتم علي مساحة واسعة وعملاقة في الإخراج. وقد أبكر الرّحيل عنّا، ولو أنّه بقي لسنواتٍ قادمة لأضاف إلى رصيده أعمالاً إخراجيّة أخرى خرافيّة المستوى، وبخبرة أعلى وبتقنيّات أفضل ممّا كانت عليه سابقاً. أذكرُ بعض الأعمال التي أخرجها قبل وفاته بمدّة وجيزة كانت أشبه بأساطير لما تمتّعت به من حرفيّة مذهلة. لم يستطع أحد أن يعالج موضوع الحروب والمعارك في المسلسلات العربيّة مثل حاتم علي. فمثلاً في مسلسل “عمر بن الخطّاب” قدّم أسلوباً فنّيّاً مميّزاً تُرفع له القبّعة من حيث الإخراج والتّصوير والغرافيك. إنّ هذا الأمر يتطلّب رؤية إبداعيّة خاصّة وإحاطة شاملة بمساحات فنيّة كبيرة في الأعمال الدّراميّة. وقد كان حاتم رحمه اللَّه في ذلك قادراً على امتلاك كلّ ما سبق.

لم ينتهِ الحديثُ عنك يا حاتم

– نحن نعرف أنّك كنتَ مقرّباً من حاتم علي برأيك لو كان حيّاً بيننا ماذا كان سيقول أو كيف كان سينظر إلى التّغريبة السّوريّة الآن؟

الحقيقة التّغريبة السّوريّة هي التي قتلت حاتم علي رحمه اللَّه، فقد كانت وجعه الكبير. هذا البلد الذي يتحطّم ويتضاءل شيئاً فشيئاً أمام مرأى عينيه. ويشاهد كيف أنّ أبناء بلده يتشرذمون هنا وهناك، فيضيعون بين البلدان، ويتمّ ظلمهم، وتُهضم حقوقهم، وأقصد هنا الممثّلين على وجه الخصوص، إذ كان التّعامل معهم مجحفاً من قبل بعض البلدان واستغلاليّاً من قبل بلاد أخرى.

إنّ هذا الأمر يحرق الفؤاد صدّقيني! وهو ليس بالمسألة السّهلة أبداً. فعندما يكون الفنّان مكرّماً في بلده ومشاركاً في عمل دراميّ مهمّ يجعله محطّ أنظار كلّ الدّول، من ثمّ يأتي الوقت الذي تتقاذفه الدّول الأخرى هنا وهناك في الموافقة على المشاركة في الأعمال الدّراميّة وتحديد الأجور بين التّأييد والرّفض، فهذا بالتّأكيد يعصر القلب ويدميه، ولاسيّما مع إنسان حسّاس ومرهف ومتمكّن مثل حاتم علي. فكان يرى كلّ المآسي وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً، لأنّه لا يملك وسيلة الإنقاذ. لقد تراكمت الأحزان رويداً رويداً في روحه، وامتلأت رئتاه وقلبه بالأوجاع، وهو يكتم عليها، إذ كان معروفاً بصمته وهدوئه وقلّة كلامه وعمقه.

نعم كان ينظر إلى الشّعب السّوري بحزن كبير، ويحمل في روحه الحزن الشّديد لما يجري. ولا تظنّي أنّه كان يعيش حياة رفاهيّة ولا مبالاة في الخارج، على العكس كان دائماً يستذكر في أحاديثه أيّام فقره ولجوئه، وذلك عندما كان يرى تهجير البشر ونزوحهم إذ كانت الحالة المأساويّة تنعكس على شخصيّته فيزيدها حزناً. لذلك قلتُ لك كان قليل الكلام، وإن تكلّم فإنّه لا يهذر بالشّرح، بل يكتفي بوضع الكلمات في أماكنها المناسبة. كما أنّه كان محبوباً جدّاً من قبل الجميع. ولا يوجد ممثّل أو أيّ أحد في الوسط الفنّيّ إلّا وتعلّم منه الكثير.  لقد كان موضع احترام ومحبّة من قبل كلّ من تعامل معه، لأنّه كان صادقاً مع الجميع لا يراوغ ولا يخاتل فنّيّاً ومهنيّاً وإنسانيّاً. اللَّه يرحمك يا حاتم!

ريتينغ برودكشن

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى