أحدث المقالاتإقرأالمقالات عامةمواهب واعدة

لم ننتهِ بعد !!! جولة السّياحة السّوداء مستمرة بين سورية ولبنان وفلسطين …

وسام رحال

… ولأنَّنا لا نعرف أن نقول بغداد من دون الشّام، ولا الموصل من دون حلب، على امتدادِ تراثنا الشّرقي، فإنَّ سورية أيضاً لم تكن أقلّ مأساةً من العراق، فقد وزّعت دمَها على العالم حتى غطّت على قضاياهم، وتصدّرت قوائم التّحذيرات الدّوليّة، والعالميّة، من الخطر على عدد آثارها المدّرجة على لائحة التّراثِ العالمي في اليونيسكو.

فإن أردت زيارة حلب باعتبارها أقدم مكانٍ استوطنت فيه البشريّة في العالم، وعلى اعتبارها أحد أهمّ المراكز الدّينيّة في العالم القديم، وأيضاً طرقها القديمة التي تشبه المتاهة في تصميمها، وقد عبرت عنها التّقارير أنّها تاريخ البشريّة المصغر. ستضيع فيها حتماً، ولكن ليس في متاهة أسواقِها وخاناتِها التي قصدت زيارتها، إنّما ستضيع لأنّ نقاط العلام التي يمكن أن تدلّك على الوجهة المطلوبة، قد سقطت كلَّها، وأصبحتْ خراباً يدلّك بعضه على بعض. 

لعلَّ السّقوفَ في تلك الأسواق هي أكثر ما يُشعِرُ السّائحَ بالأمانِ، ليدرك أنّه في بيته بحكم شعوره بالضّياع في تلك المتاهات، لكنَّ أشلاءَ السّقوف حلَّقت بين السّماءِ والأرض، ولم يعد شعورك كسائح أنك في بيتِك، على الرّغم من كلُّ الحميميّة التي كانت تكسو المكان، لم تعد لديك سوى حميميّةٍ من نوعٍ آخر، من نوع الحزنِ والتّأمّل لبقايا الأحجار، التي ما زالت في مكانها تشكرُ زيارتك كأنّها تطلب من يدك لمسة عطفٍ وحنان.

حلب الشرقية

لا حميميّة، ولا قداسة، كانت قادرة على وقف زحف الموت، سقط مسجدُ بني أميّة، الذي بني مسبّقاً في القرن الثّامن قبل الميلاد، وأخذ شكله الأخير بين القرنين الحادي عشر والرّابع عشر الميلاديين، وطالما وقف شاهداً على تاريخ المدينة بخريفها وربيعها، أسقطته القذائف من دونَ أيّ اعتبارٍ لقيمته الدّينيّة والتّاريخيّة، أسقطه حزنه على أحجارِ المدينة التي سقطت أمامه كأحجارِ الـ”دومينو”، أسقطته رائحة الدّخان نعم رائحة الدّخان التي عشّشت بصدره، ألم يقل نزار قباني: “وللمساجدِ كالأشجارِ أرواحُ …”، رجع المسجدُ ليقومَ من جديد بتصميمه القديم نفسِه، لكن روحه القديمة غادرت من دون رجعة. 

فاقصد حلب، وسلّم على الحمّامات العثمانيّة، والمدارس الحجريّة، والأسواق العربيّة، وخانات الحرير، والصابون، والزّعتر، سلِّم على خرائبها بدموعِ وقف على أطلال المدينة، متحسّراً على حضارةٍ كأنّها لم تمرّ من هنا.

تدمر

ثمَّ انزل لتدمرَ لتشاهدَ طيف زنوبيا، تبتلع السّمَّ، الذي كانت تحتفظ به في خاتمِها، تبتلعه مرّةً أُخرى في 2013، وهي ترى معك حفر الرّصاص على أعمدةِ تدمر، والمعابد بين الأنقاض، قف مع طيف زنوبيا لتشاهد أن الأشوريين، والفرس، والرّومان، لم يستطيعوا القيام ليدافعوا عن المدينة، لا أحد أطلاقاً قَدِرَ أن يظهر في هذه الثّكنة العسكريّة الأثريّة لتنظيم الدّولة الإسلاميّة، تمّ نقل العديد من القطع الأثريّة إلى مخازن في العاصمة السّوريّة، ونُهِبَت مواقع مملكة ماري من العصر البرونزي، وبقي الفراغ مكاناً مغرياً جدّاً للتّحسّر السّياحي، ولأنَّ تدمر أختَ حمص في المكان لك أن تعلم فقط أن المخرج العالمي “جوناثان نولان” استخدم في مسلسله عن نهاية العالم صورة جويّة مُلتقطة لمدينة حمص، فإذا كنت من هواة السّياحة السّوداء فقد وجدت ضالتك بكلّ تأكيد، وتطول قائمة الخراب السّوريّة،  ويدلّك بعضها على بعض، فالمنطقة كلّها تحت وطأة الحروب منذ بداية التّاريخ، الحروب التي تمتدّ وتكبر ككرة الثّلج، وتحصد معها الأرواح، والآثار، والعواطف، والإنسانيّة، لم تَترك لبنان بحاله، فمن الحرب الأهليّة إلى الحروب مع الاحتلال، كلّ ذلك ترك في لبنان أماكن كنصب تذكاريّة للحروب، تحكي لك قصّة المدينة، وتعكس صرخاتها التي كانت لفترة من الزّمن غير مسموعةٍ من أحد.

تمثال الشهدا في بيروت

لبنان الذي نجا من المذبحة عرف كيف يدورها ويجعل من المأساة إبداعاً، واقفاً ليتذكّر دائماً أوجاعه التي كانت من الحرب الأهليّة، فلا يكرّرها، صنع لبنان إبداعاً متقدّماً في هذا المجال، وعلى عادة لبنان كبلدٍ سياحي متميّزٍ في المنطقة،  لم يوفّر شيئاً من تراثه من أفراحه وأحزانه إلا ليجعله ملفتاً وساحراً، فنصب الأمل من أجل السّلام، وتمثال الشّهداء، والأبنية الواقفة، كمصافٍ في كلّ لبنان بعد أن خرقها الرّصاص لتقولَ أنا هنا ما زلت أقدرُ أن أكون، والمتحف العسكري اللبناني الذي بني ليحافظ على التّحف العسكريّة اللبنانيّة القديمة، والموجود في مقرّ وزارة الدّفاع اللبنانيّة هو أحد أهمّ الأماكن التي يمكن زيارتها، ففي مدخل الوزارة يوجد برج ضخم يصل ارتفاعه إلى ثلاثين متراً، ووزنه إلى خمسة آلاف طن، يتألّف من عربات مدمّرة ودبّابات ومدّفعيّات هاون، يفصل بينها وبين بعضها قطعٌ من الإسمنت، وتبدو هي محشوّة بين قطع الإسمنت كسندويش حربي لبلدٍ التهمته الحرب، ذات حزنٍ مضى، ليس هذا فقط  بيت بيروت مثلاً، هو أحد أهمّ الأماكن التي يمكنك زيارتها من ناحية عمره التّاريخي إذّ يعودُ للعام 1924 وقد بني على يد أعظم مهندسي لبنان، واعتمد المهندس فيه على الزّوايا المفتوحة، التي أعطت للغرف إطلالة على كلّ الاتجاهات، ومع ابتداء الحرب الأهليّة في لبنان غادر سكان البيت، لكونهم أصبحوا على تماسٍ مباشرٍ مع الحرب بين بيروت الشّرقيّة، والغربيّة، لكونه يقع في منطقة السوديكو، وهي أبرز مناطق القتال في بيروت، ونتيجةً لتصميمه المفتوح على كلّ الجهات أصبح مكاناً مناسباً جداً لتموضع القناصات، لم يسمح اللبنانيون أن يكون البيت من البيوت المهدّدة بالدّمار بعد أن صُنّف على لائحة البيوت المرشّحة للهدم، فقرّروا إبقاءه على حالِه بكلّ ما فيه من دمارٍ وحفر ورصاصٍ ومتاريس وكتاباتٍ لمن عبروا على هذا البيت، وكيف كانت نفسيّاتهم، كلُّ ذلك في بلدٍ صغيرٍ بالمساحة كلبنان، ناهيك عن القصف الإسرائيلي، ومخلّفاته التي يمكنك مشاهدتها على قلعة الشّقيف اللبنانيّة للنبطيّة حتى صيدا وصور والزّهراني وحاصبيّا.

يمكنني الآن أن أقول لك عن فلسطين على اعتبارها محور الصّراع، لكنَّ المشكلة أنّ التّراث الفلسطيني على غالبيّته صارَ مطموراً تحت المستعمرات الصّهيونيّة التي قامت فوقه، فالأثر يدفن مع أهل المدينة، ويمكنك مشاهدته عن طريق البقايا، كالمسجد الأقصى، الذي بقي بعد حريقه الذي شبّ في الجناح الشّرقي للجامع القبّلي في العام 1969.

بقيت غزّة ترسم على جدرانها المهدّمة لوحات فنيّة تدلّ على انتصار الحياة على الموت، في حيّ الشّجاعيّة.

بقي جدار الفصل الذي يمنع سكان الضّفّة من الدّخول إلى الأراضي المحتلّة، والمستوطنات القريبة من الخطّ الأخضر، وعلى هذا الجدار لوحده يمكنك أن تزور بلداً كاملاً بفنونِها رسماً ونحتاً وكتابةً، بلداً يُهتَكُ ويُفتَكُ منذ ما يقارب القرن، بلداً كاملاً منشوراً على الحائط كسارية العلم. 

المسجد الأقصى

يتبع….

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى