لا مهربَ من ذلك
وسام رحال

بالأمسِ كانَ واحدُنا يسدِّدُ الكرةَ لوالدِهِ في الحديقةِ، فيقعُ من ثقلِها، ويضحكُ عليهِ أبوهُ، وتشهدُ الصورُ على ذلك، فجأةً يجدُ الحياةُ تركلُهُ ولا تقع من ثقلِهِ، بل تتركُهُ يقعُ لوحدِهِ هذه المرةَ، ويضحكُ عليهُ الآخرونَ، يتدحرجُ منَ الكرةِ إلى سمّاعاتِ الهاتفِ، وراديو منتصفِ الليلِ، وقصصِ العاشقينَ البائسةِ التافهةِ، مع مذيعٍ يحتاجُ للكثيرِ الكثيرِ من شدِّ الحنكِ، وتسريعِ الكلامِ، ورصِّ براغي فكِّهِ السّفلي، ليتكلَّمَ بالقليلِ منَ الرّجولة، من الليلِ والموسيقى والشّعرِ، إلى شخصٍ يدخلُ معتركَ هذهِ القصص، لا يكفيهِ أن يسمعَ التّجربةَ لدى كلِّ هذا الكمِّ منَ العاشقين بل يريدُ أن يدخلَ التّجربةَ ويضعَ اسمَهُ على لوائحِ المتّصلين، فيُحِبُّ ويُحَبُّ ويألَفُ ويؤلَفُ، يكرهُ ويلعنُ ويتصلُ بالمذيعِ إيّاهُ ليشكو ويشتمَ ويهدي الأغاني الرّديئةَ وييأسَ أخيراً.

يكذبُ على نفسِهِ كثيراً ليعيشَ الكلامَ الذي سمعَه، يأخذُ حبيبَتَهُ ويذهبا ليشاهِدا غروبَ الشّمسِ، فيشعرَ بالطّاقةِ السّلبيّةِ تعضُّ بطنَهُ، وبالدّوارِ الشّديدِ، وهي كذلك، لكنَّ السّينما والمتّصلينَ بالمذيعِ البطيء أخبروهُ أنَّ ذلك شعورٌ عنيفٌ في الحبّ، يتهِمُ حبَّهُ ثمَّ حبَّ حبيبتِه، يستمعُ لأناسٍ ينطونَ في الكليبات، لكونِهِ عاشقاً يعاصِرُ موضةَ العشّاق، وبعدها يشمئزُّ من هذا الفنِّ المُنَطْوَطِ كسيركِ القردة، ويفطنُ متأخراً لكذبِ المتّصلينَ والسّينما والدّراما التّركيّة، ويدركُ أهميةَ التزامِهِ بشعورِهِ فقط ، تباعاً يملُّ مما كانَ شغفاً، في هذه اللّحظةِ تماماً يتحوَّلُ إلى إنسانٍ يبحثُ عن سدِّ فراغاتِ الشّغفِ بالشّريكِ فيصبحُ الشّخصَ المتزوّجَ الذي يحملُ الجريدةَ تحتَ إبطِهِ والبطيخَ بيمينِهِ، ويضعُ على رأسِهِ قطعةً منَ البشكيرِ المبلولِ، ويحملُ أكياساً أغلى منه ومن تاريخِهِ العاطفي، يرمي الأكياسَ على بنكِ الأغراضِ في المطبخِ ويشعلُ المروحةَ ريثما يغسلُ نفسَهُ من سخامِ النّهار، على المرآةِ يتابعُ سيرَ عمليّةِ الاصفرارِ الذي بدأ يصيبُ أسنانَهُ، وخطوطَ الشّيبِ في شَعرِه، يذبحُ البطيخَ بعدَ الغداءِ محظِّظاً من وجهِ زوجهِ، ( كآخرِ ما تبقى من رومانسيّةِ السّماعاتِ وسهرِ اللّيلِ الذي كان ) ثمَّ يرتمي قبالةَ المروحةِ مراقباً تطوّراتِ الكرشِ الحتميّة، التي لم تكن على بالِهِ أبداً منذ مدّةٍ قريبة.

لا يمكنُ لهُ أن يدقِّقَ بكلِّ هذه التّفاصيلِ أنهُ صار كبيراً كلَّ يوم، لكنَّ أغنيةً من زمنِ الثّمانينات أو التّسعينات كفيلةٌ بإعادةِ شريطِ العمرِ من بدايتِهِ حتى الآن، حتى لحظةِ وقوفِ الرّجلِ نفسِهِ يلعبُ معَ ابنِهِ فيسدِّدُ ابنُهُ الكرةَ لهُ، ويقعُ من ثقلِها ويضحكُ الأبُ لابتداءِ رحلةٍ جديدة، كأنَّهُ يرى نفسَهُ القديمةَ تسألُهُ كيفَ وصلتَ إلى هنا؟ فيجيبُها: لا مهربَ من ذلك.