“حطّ إيدك” … قصّة قصيرة لـ د. ممدوح حمادة

اشتُهر أبو حمود في القرية؛ إضافةً إلى بدلة الدّرك الفرنسي، ببنطالها المنفوخ من الجانبين، والتي لم يُشاهد في لباس غيرها، وإلى شاربيه الكثّين الأصفرين، اشتُهر بقصصه المُختلَقَة، لدرجة تدلّ على أنّ عقل أبي حمود لا يفرض أيّ رقابة على لسانه، فهو تارةً طبيب تخرّج من الـ”سوربون”، مستغلاً معرفته باللّغة الفرنسيّة، التي لا يعرف أحد من أين حصل عليها، وتارةً طبيب الملوك والرّؤساء، وتارةً قائد الفرق الحديديّة في الثّورة، وتارةً مُسقِط الطّائرات بدقّة تفوق “سام 6″، ولا يخلو الأمر من بعض القصص التي اختلقها السّكان ونسبوها إليه، ولكنه مع ذلك في بعض الأحيان يكون في حالة تجلٍّ، ويروي قصصاً في منتهى الواقعيّة، وإن حاول أحدهم تحريضه لرواية قصّة ما من قصصه الخياليّة، يرميه بنظرةٍ ثاقبة مفعمة بالازدراء، تجعل الشّخص يصمت طوال السّهرة، ولكن هذه الحالات كانت نادرة جداً، أمّا اليوم فهو في حالة يراه فيها الجميع للمرّة الأولى، فبعد ما يقارب الشّهر من التحاقه بالخدمة العسكريّة، عاد صافي في إجازة يحصل عليها الجنود عند نهاية دورة الأغرار، وبما أن صافي قد فُرِزَ للخدمة في صفوف الشّرطة العسكريّة، فقد كان أكثر ما يلفت النّظر فيه، هو تلك القبّعة الـ”بيريه” الحمراء، التي كانت تميل فوق رأسه.

وكما يحصل مع شخص يعود بعد غياب، يحضر عدد من سكان القرية، ممن يجمعه بهم علاقة ما، للسّلام عليه، وتبادل الأحاديث، وقد كان أبو حمود من بين الذين جاءوا للسّلام على صافي هذه الليلة، ولكنّه بقي صامتاً منذ بداية السّهرة، وحتى آخرها، ولم يتفوّه بكلمة واحدة، على الرّغم من محاولات البعض بثّ الرّوح في السّهرة عبر تحريضه، ولكنّه بعد كلّ محاولة كان يلقي نظرة الازدراء تلك، فيصمت الشّخص الذي حاول ذلك، إلى أن كفّ الجميع عن التّحرّش بأبي حمود، الذي كان يبدو عليه أنّه يفكّر في أمرٍ ما، شرب أبو حمود كؤوس الشّاي التي قُدّمت له من دون حماس، وبقي حتى انصرف الجميع ثمّ نهض وطلب من صافي:
– شرف عمي صافي أحتاجك في أمر.
– تفضل يا عم أبو حمود، قل ما تريد.
نظر أبو حمود فيما حوله ثمّ أردف:
– للحيطان آذان، فلنخرج إلى الطّريق.
لبس صافي شحاطة بلاستيك، كانت في العتبة، وخرج في أثر أبي حمود، وقد اعترته حالة من الفضول لمعرفة الشّيء الذي لا يريد أبو حمود للحيطان أن تسمعه.
في الشّارع تأبّط أبو حمود ذراع صافي، وسارا حوالي عشّرة أمتار من دون أن ينطق أبو حمود بحرف، ثمّ توقّف ونظر إلى صافي، وقال له بنبرةٍ في قمّة الجدّيّة:
– انبسطتلك كثير لأنّهم أخذوك إلى الشّرطة العسكريّة.
– شكراً عم أبو حمود.
ولم يرَ فيما قاله أبو حمود ما يشكل مادّة دسمة لآذان الحيطان، عداك عن أن الخدمة في الشّرطة العسكريّة لم تكن بذلك الأمر الذي يبعث على السّرور، ثمّ تابعا السّير، وتابع أبو حمود حديثه من دون أن يلتفت إلى صافي:
– أنت شبّ آدمي، وأهلك أوادم، بيتكم بيت الشّهامة، والنّخوة.
وأطنب أبو حمود في المديح لدرجة جعلت صافي الذي بدأ يشعر بالنّعاس، يتساءل:
– ألأجل هذا أخرجتني من البيت يا عم أبو حمود؟
– لا.
قال أبو حمود باختصار، وتابع:
– ابن نصّار، وجيه.
– ما به؟
– تخّ في السّجون، يكفيه اثنا عشر عاماً.
– معك حقّ.
قال صافي ولم يتمكّن من استشفاف مناسبة الحديث عن وجيه نصّار، الذي اقتاده الأمن عندما كان عمر صافي أقل من ثماني سنوات بقليل، بينما تابع أبو حمود:
– غلط الرّجل خيو، لكن جلّ من لا يخطئ يا أخي، قال كلمتين بحقّ الحكومة، والحكومة من حقّها تعاقبه لأنه قال هاتين الكلمتين، لكي يتربّى هو وغيره ولا يجيبو سيرة الحكومة بالعاطل كلّ عمرهن. فلتنتف له الحكومة شاربيه يا أخي، فلترفعه فلقة، وتجمّع أهل البلد يبزقوا بوجهه في السّاحة، فلتحبسه، لكن يا أخي مش اتنعشر سنة، فليحبسوه سنتين على كلّ كلمة يا أخي، ثلاث سنوات، يكفي، لو على كلّ حرف سنة فان اتنعشر سنة تكفيه، يا أخي هذا إنسان، متى سيتزوّج وينجب، أم أنّ الحكومة تريده أن يبقى بلا ذريّة؟
– معك حقّ.
كرّر صافي باقتضاب محاولاً عدم التّورّط بكلام أكثر في موضوع وجيه نصّار الذي يدرك خطورته، ويلعن في داخله أبا حمود الذي فتحه، وتمنّى أن يكون أبو حمود قد انتهى، ولكن أبا حمود انطلق متابعاً:
– ابن صلاح الدين قتل قتيل انحبس، وطلع بالعفو، ابن هلال سرق خزينة الدّولة انحبس سنة، وطلع بالعفو، اعتبرو وجيه نصار قاتل قتيل أو سارق خزينة الدّولة خيو، آن له أن يخرج.
وهنا قرر صافي أن يضع حدّاً لهذا الحديث الذي أخذ يكبر ككرة الثّلج، وسأل أبا حمود:
– ولماذا تقول هذا الكلام لي؟
– لأنّي أحبّك ولا أريد لأحد أن يُتَحدّث عنك بالعاطل.
– وما علاقتي أنا لكي يتحدّث عنّي النّاس بالعاطل؟
– غداً يقولون هه … عندما صار، تخلّى عن أهله وجيرانه.
– وما هو المطلوب مني لكي لا يتحدّث النّاس عنّي بالعاطل يا عم أبو حمود.
وهنا انتفض أبو حمود قائلاً:
– إنّ اللبيب من الإشارة يفهم، حطّ إيدك بالموضوع يا أخي لعلّهم يفكّون أسر الولد، بدنا نشرّبك إيّاها بالمعلقة يعني؟!
أفلت صافي ذراعه من يدّ أبي حمود، ونظر إلى ملامح وجهه التي لم تكن قط جديّة كما هي الآن، ولم يتمالك نفسه، أفلتت منه ضحكة، ما لبثت أنّ تحوّلت إلى قهقهة، وتصاعدت لتأخذ شكلاً هستيريّاً.
حدّق فيه أبو حمود مستغرباً، وكان يحاول تفسير ما يقوم به صافي، أهو ضحك أم بكاء، ولكن ومع ذلك فإن شعوراً بالإشفاق على صافي تشكّل عند أبي حمود.
أمّا صافي الذي كان منخرطاً بالضّحك والبكاء معاً، فلم يشعر بالازدراء لأحد كما يشعر بالازدراء لنفسه الآن.
