عالم فسيح وقفص

“إنّ الطّيور التي خُلقت في قفص تظنّ أنّ الطّيران جريمة”.
استوقفني هذا القول بما يحمله من عمق وجمال وفكر، فأخذت أبحث عن قائله، فتحت العم “غوغل” فوجدت رواية تنسبه إلى المخرج الإسباني السّينمائي “أليخاندرو يودورفسكي” الذي ولد عام ١٩٢٩م، وهناك رواية أخرى تنسبه إلى جبران خليل جبران الذي ولد ١٨٨٣م وعلى الأغلب أنّه الأخير صاحب المقولة، وتبقى محركات البحث تحتاج إلى التّوثيق.
سواء أكان القول لجبران أو لـ”يودورفسكي” فهذا لا يلغي أهمّيّته، فهو من الأهمّيّة بمكان لما يثير من تأمّلات وكثير من التّساؤلات.
تُرى ما الذي جرى حتى كُتب هذا الكلام؟ وإلى أيّ مدى بلغت رؤية الكاتب؟ وكم من تجربة مرّت عليه فأجبرته على التّحليق خارج القفص؟ وكم من الاتهامات جابَه حتّى وصل إلى تلك القناعة؟
أسئلة كثيرة تتولّد وتتوالد في ذهني كلّما قرأت هذه العبارة.
تُرى ما الذي يمكن أن نراه خارج إطار مدينتنا، قريتنا، حارتنا، بل وبيتنا أيضاً؟

أتذكّر هنا كتاب الأيّام لطه حُسين ووصفه لنفسه حين كان طفلاً، يظنّ أنّ العالم ينتهي عند سياج قريته خلف التّرعة، والمفارقة الكبيرة التي اكتشفها عندما بدأ يتسلّل من شباك السّياج، وكلّما ولج إلى عالم رأى شيئاً مُغايراً، رأى صورة لا تشبه عالمه وإنساناً مختلفاً عن أبناء جلدته.
قد تحدث هذه المكاشفة مع كلّ شخص منّا، وقد يظنّ أنّ هذا العالم ينتهي عنده ومدينته ومعتقداته، وحين تتاح له فرصة الخروج سيرى الحضارات الأخرى والثّقافات الكثيرة، فتتكوّن لديه صور عديدة، إمّا يتقبّلها وإمّا يرفضها، إمّا أن ينغمس ويحاول التّقليد وإمّا أن ينفر ويبتعد، وأظنّ أنّ أهمّيّة العقل والقياس والتّقبّل هي الفَيصل، قد آخذ ما يناسبني مع الاحتفاظ بهُويّتي، وقد أرفض كلّ ما أراه، إذًا الأمر مقتصر على التّقبّل والعقل.
ومن هنا ننظر إلى أهمّيّة تكوين الفكر وما يدور حوله، فيستحضرني مقطع للأستاذ طه حُسين في كتابه الأيّام، يتحدّث فيه عن مشارب الفكر في الصّعيد ويعدّدها من بطولات الهلاليين والزّناتيين، وعنترة، والظّاهر بيبرس، والأشعار الصّوفيّة، وكتاب شمس المعارف الكبرى، وكتاب الدّيرابي، وصولاً إلى أخبار الفتوح وغيرها، فيقول: “وكان النّاس يشترون الكتب كلّها، ويلتهمون ما فيها التهاماً، وكانت عقليّتهم تتكوّن من خلاصته كما تتكوّن أجسادهم من خلاصة ما كانوا يأكلون ويشربون…”.
إذا أعملنا العقل في تقليب عبارات الأستاذ طه حُسين سنرى كم من الأهمّيّة بمكان تنويع مشارب العقل؟ فكما الجسد يحتاج إلى عناصر عديدة فالعقل أيضاً يحتاج إلى اهتمام كبير وتنوّع أكبر، للنّظر ما الذي شكّل عقولنا؟
إذا راجعنا أنفسنا فيما دخل علينا من أفكار تشرّبناها عبر الزّمن وشكّلت عقولنا ومعتقداتنا سنجد خليطاً من الثّقافات من المشرق إلى المغرب، دخلت علينا حتّى أصبحت جزءاً منّا، ثمّ يأتي السّؤال الأهمّ كم نحن مسؤولون عمّا زرعناه في بواطن العقول؟!

لن أتحدّث عن القراءة والمطالعة على أهمّيّتها، فلنراقب فقط الحسابات التي نتابعها في العالم الافتراضي وما السّمة الغالبة عليها؟ وما الموضوعات التي تتناولها؟ وإلى أيّ مدى تقترب من الأدب والثّقافة؟ وإلى أيّ مدى انحطّ الذّوق العامّ وتردّت الذّائقة على جميع الأصعدة؟
التفاتة صغيرة وسندرك خطورة الأمر، لن نستغرب أبداً الحالة التي وصلنا إليها، ولا نعلم إلى أيّ منعطف ستقودنا، نرى نسخاً مكرورةً يحاول بعضها التّقليد الأعمى والأهمّ جني الـ”لايكات” والشّهرة والمال.
فكلّ ما نراه يوميّاً ونتابعه بشراهة عمياء يشكّل جزءاً من تفكيرنا، وإن لم تفطن ستتشرّب هذه الأفكار في عقلك وتشارك في صناعة قراراتك وتشكيل ذاتك، فلنرتقِ بمن يسمو بهذا الفكر ولنفتح جميع الأبواب المُغلَّقة ولننتقِ ما يناسبنا، ما دمنا نملك العقل فنحن نستطيع التّحليق فوق السّحاب.