طبيب نفسي.. عيب!
د. مأمون علواني في حوار خاصّ مع د. فاطمة أحمد

– ما سبب خوف المجتمعات العربيّة من الأمراض النّفسيّة، واتّهام المرضى النّفسيين بالمجانين؟
عزيزتي لقد نشأنا حياة مليئة بالـ”تابوهات” من الحلال والحرام، ويجوز ولا يجوز، وعيب و”ما بيصير”. وعندما تُصادف الشّخص مشاكل أو مواقف صادمة، مَن الذي يقوم بالإجابة عن أسئلته واستفساراته؟ غالباً سيكون شخصاً غير متعلّم أو غير مختصّ، وذلك عن غير قصد، طبعاً، من الوسط المحيط، ويكون إمّا الأب أو الأم، فيزداد نتيجة ذلك عدد الأسئلة في الذّهن بدلاً من حلّها، ويزداد معها عدد الأسوار التي تحيط بها، وتكثر الحواجز والمحرّمات التي يصعب تجاوزها. من جملة هذه المحرّمات عند المجتمع هي العلاج النّفسي الذي يكون ضروريّاً لمواجهة الصّدمات النّفسيّة، والتي يعاني منها كلّ إنسان عربيّاً كان أو أجنبيّاً، إلّا أنّ الأمر عند الأوروبيّ مختلف عن العربيّ، إذ هناك حالة تباهي! كيف؟ تجدين يافعاً يبلغ من العمر ثلاث عشرة عاماً يذهب إلى معالج نفسي بكلّ بساطة وتقبّل.
من هو المعالج النّفسيّ؟
للأسف مفهومه عندنا مغلوط، إذ يتمّ التّحذير منه، وكأنّ فيه مسٌّ! وانتبهي لمفردة (المسّ) ماذا تعني هذه المفردة؟ مجنون أمّا إذا كان الشخص يعاني من التهاب كبد أو مشكلة في البنكرياس أو ارتفاع في نسبة الـ”كوليسترول”، ما الذي سيحصل له؟ بالتّأكيد سيتألّم وينكمش ويتلوّى من الوجع، لذلك سيُسعف إلى المشفى، ليتمّ علاجه وإعطاءه الأدوية الملائمة، في حين أنّ المريض النّفسي الذي يعاني من مشاكل نفسيّة أو اضطرابات في الخلايا العصبيّة الموجودة في رأسه يتمّ إهماله خوفاً من اتّهامه باللّجوء إلى الطّبيب النّفسيّ، بالمجنون فينتكس ويمرض، وقد يؤدّي به الأمر إلى تفاقم الحالة والاكتئاب أو العزلة الشّديدة أو الأرق الشّديد أو الرّهاب المفرط أو القلق الحادّ.
إنّ الجسم مؤلّف من أعضاء، وعضلات، وعظام، ودماء، وجملة عصبيّة هائلة، يتمّ إدارة كلّ ذلك من خلال العقل الذي لا يُستعمل منه إلا ٨٪ في أقصى حالاته، وذلك عند المفكرين والعباقرة.

في حال إذا أصيب الإنسان بخلل ما في عمل الخلايا الذّهنيّة نتيجة صدمة معيّنة أو موقف حادّ آنذاك إلى أين سيذهب؟! هو ليس بشخص غبي ولا مجنون هو إنسان تعرّض لإصابة نفسيّة أو صدمة عاطفيّة إن صحّ القول، كحالة الفقد أو الموت، تماماً كالذي يصاب بإصابة في أيّ جزء من أجزاء جسمه. هنا من الواجب والضّروري الذّهاب إلى معالج أو طبيب نفسيّ، والاستعانة به. والذّهاب لا يعني أبداً حالة من حالات الرّفاهيّة و”لف رجل على رجل”!
سأحكي لكِ عن تجربتي الخاصّة عندما قدّمتُ استقالتي في منصبي الإداريّ في “شركة أبو ظبي للإعلام”. مررتُ بعدها بحالة ضغط نفسيّ، وأرق في النّوم، وشيء من الاكتئاب، ولاسيّما بعد توقّف انشغالاتي مع النّاس، وتوقّف رنين هاتفي الذي لم يكن يهدأ عندما كنتُ على الكرسي اتّخذُ حينها القرارات المهمّة، وإثر القلق الذي أصابني لجأتُ عندها إلى طبيب نفسيّ، ولم ألقِ أذني للقيل والقال، فحدّد لي الطّبيبُ عدّة جلساتٍ استطعتُ بعدها السّيطرة على تلك المشاكل والكلمات الصّعبة التي كانت تقلق راحتي وتضغطني نفسيّاً. فإذا كان المرء يعاني من مشكلات نفسيّة أو عصبيّة لابدّ له من الذّهاب إلى الطّبيب النّفسيّ. والغريب أنّ المجتمع العربي ينظر غالباً إلى هذا الطّبيب أنّه (مجنون) مع أنّه قضى سنوات عدّة في الدّراسة الأكاديميّة المعمّقة، ومع هذا يُنظر إليه بازدراء في حين يُنظر إلى الطّبيب في أيّ مجال آخر على أنّه فهيم. مع العلم أنّ جلسة استشارة نفسيّة عند الطّبيب النّفسيّ هي من أغلى الأجور في أوروبا مقارنة بباقي الاستشارات الطّبيّة في المجالات الأخرى، وكذلك الأدوية النّفسيّة أيضاً باهظة الثّمن سواء أكانت معالِجة أو مهدّئة، والتي من المؤكّد مهما طال مدّة علاج المريض النّفسيّ فستكون النّتيجة هي ترميم الخلايا العصبيّة أو معالجة الضّغوطات النّفسيّة، والشّفاء من خلال العودة إلى الحياة اليوميّة براحة واستقرار. فلم الخجل من الذّهاب إلى الطّبيب النّفسيّ. أين المشكلة في ذلك؟
من الغرائب التي تحصل أنّك تجدين الشّخص الذي يعاني مثلاً من بدانة مفرطة، ويأخذ أدوية الضّغط والسّكر، ومع ذلك يبقى مستمرّاً في الأكل ليل نهار عن غير فهمٍ، ومن غير أن يستهزئ المجتمع به. في حين شخصٌ آخر يعاني من مشاكل نفسيّة وضغوطات عصبيّة يستهزئون منه إذا لجأ إلى طبيب أو معالج نفسيّ، ويوسمونه بالمجنون! والسّبب في ذلك هو الجهل، الجهل عماد من أعمدة التّهديم في المجتمع الذي يجب نسفه بكلّ تأكيد!
– الأسرة جزء من المجتمع، برأيك د. مأمون كيف يجب توعية الأسرة بأهمّيّة الصّحّة النّفسيّة؟
إنّ الخطاب العلمي – المعرفي الموجّه للأسرة مهمّ جدّاً، والذي يحاول العديد من الأشخاص تقديمه عبر منصّات “السوشيال ميديا”، وأنا واحد من هؤلاء الأشخاص، إذ أحملُ على عاتقي محاولة إيصال رسالة توعويّة للأسرة من خلال ما أعرضه، فأقولُ للأهل والمربّين إن كان لديكم ابن/ة يعاني من مشكلة نفسيّة أو “فوبيا” أو وسواس قهري من شيء ما لا تهملوه، بل يجب استشارة طبيب نفسيّ مختصّ بالضّرورة. ويؤسفني حقّاً أنّنا عندنا في سورية، وهي أمّ الحضارات، هناك خجل مريب من هذه المسألة ليس هذا فقط، الكارثة أنّ الأطباء النّفسيّون في سورية على قلّتهم لا يتّخذون من الحكمة في معالجة مرضاهم فيرهقونهم بالأدوية المسّكنة.
إنّ حدوث حالات الانتحار في مجتمعاتنا تعود إلى عدم معالجة هذه الضّغوطات النّفسيّة المتراكمة من قبل مختصّين نفسيين واعيين، والتي تؤدّي كثرتها وزحمتها إلى حدّ الانفجار، وبالتّالي إلى الانتحار. من المهمّ جدّاً أن يستوعب الأبّ والأم فكرة المرض النّفسي مثله مثل أيّ مرض جسديّ آخر، وألّا يشعرا بالخجل أو العار منه.
