ضربوني على رأسي حتّى فقدتُ ذاكرتي ولم يعد أحد يتذكّر فضلي!

عندما كنت في طريقي إلى الجامعة، وأثناء نزولي من الميكروباص، الذي جاهدت كثيراً في الحصول على مقعدٍ داخله، سقطت عينيّ صدفةً إلى طرف حاوية القمامة، فرأيت قربها ليرة سوريّة معدنيّة، تلمع وكأنّها تنادي لي كي أحتضنها، واستمع إلى حكايتها، فدنوت إلى الأرض والتقطتها بسرعة، وقمت بتعقيمها بالكحول، الذي بات صديقاً لي في ظلّ هذا الوباء المُجتاح للبشريّة، فتفاجئت بالليرة ترتجف من البرودة، وتقول لي خبّئيني في جيبك، لم يعد لدي الكثير من الطّاقة للتداول بين تلك الأيادي الخشنة، عانقتها كما لو كانت صديقةً عتيقةً لي.
أخذت استمع إليها بحسرة، وهي تروي لي عن صباها، وكيف كانت المجالس والبورصات تضجّ بذكرها، ومن ينطق اسمها كان يشعر بالعزّة والفخر، ولكن قد ضربها الدّولار ضربةً مبرحةً ذات مرّة، حتى أخذت على مدار عشر سنوات تفقد ذاكرتها شيئاً فشيئاً، ولكنّها كانت متفائلة جدّاً بأن تعود لها ذاكرتها القويّة يوماً ما، فهناك أشخاص يحاولون وصف الأعشاب والخلطات المفيدة لها، وعلى الرّغم من فشلهم فهي سعيدة بتلك المحاولات.

ونحن نسير إلى باب الجامعة؛ رأت ليرتي خمسين ألف قطعة منها، قُدّمَتْ دُفعةً واحدةً مقابل قطعة ثيابٍ رقيقةٍ، فصرخت بكلّ طاقتها لا يمكن أن تضيع خمسون ألف قطعةٍ من أولادي بهذه السّرعة، ومقابل ماذا؛ قطعةٌ من الثّياب!؟ وأنا التي كانت عشرة مني فقط تُطعم عائلة كاملة لبناً وخبزاً!
شعرت بعجزي أمام تلك الصّديقة، فأنا لا حول لي ولا قوّة إلا أن استمع إليها وأحميها في جيبي من الضّياع مرّةً عاشرةً، وبينما نحن نسير في بهو الكليّة وصلنا إلى الـ”كافتيريا”، فقرّرتُ شراء فنجان قهوة، وما إن رأتني أُخرج من جيبي ألف قطعة منها حتى كاد يُغمى عليها، فقلت لها ما بك؟!
لتردّ عليَّ أتضحّين بألف قطعة منّي مقابل فنجان قهوة كنتُ أقدّمه بخمس ليرات فقط!
ضحكتُ ضحكةً ساخرةً حتى ظنّ صاحب الـ”كافتيريا” أنّني مجنونة، وأتحدّث إلى نفسي، فأخذت فنجان قهوتي، وانسحبت بهدوءٍ إلى مقعدٍ خشبيٍّ، أُتابع حديثي مع صديقتي التي فقدت ذاكرتها، لكنّني أراها تحاول بشتّى الوسائل التّذكير بنفسها، وبأنّها ما زالت على قيد الحياة.
نظرتُ إليها، وهي في كفي، وأخبرتها بأنّه في هذا العالم يوجد وحش اقتصادي ضخم هو المسؤول عنها، وعن ذاكرتها وقيمتها، وهذا الوحش هو الذي أعطى الدّولار سبانخ “باباي”، الذي جعلته يتجرّأ على ضربها وشلّ ذاكرتها بهذه الهمجيّة. ولكن يا صغيرتي سبانخ “باباي” له مدّة محدّدة ومن ثمّ تفقد المفعول، ومن يدري لعلّ علبة السّبانخ القادمة تكون من نصيبك، لتنفخ بأوردتك القوّة، وتعطي لعظامك الرّقيقة العضلات.
ضحكتْ صديقتي كثيراً، وطلبت منّي أن أجمع أولادها الصّغار “خمسة، وعشرة، وخمس وعشرين، وخمسون، ومائة، ومائتان، وخمسمائة” وأن أضعهم في حضنها لتقول لهم وصيّتها الأخيرة، فمن يعلم متى تكون الآخرة، ومن يعلم كيف نُبعث من جديد.
فهذا العالم عجلة “روليت” سريعة، نقامر به من دون أن ندري مصيرنا، وكم سيكلّفنا دوران العجلة من خسارةٍ أو ربح.

ريتينغ برودكشن