أحدث المقالاتمواهب واعدة

ضاعت جوليا …

سماح الحمادي

يضّعف الإنسان مرّتيّنْ وبشّدة في حياتهٍ، مرّةً عندما يفقد عزيز قلّبٍ فقدان الموت، ومرّةً عندما يستنزف ذاته على ضياع جزءٍ منهُ لفترةٍ قصيرة أو لربّما طويلة للغاية، فمشاعرُ الاختفاء غير المرهونة بأثر، صعبةُ المراس فعلاً.

إن رواية النّاس عن ضياع أشخاص يقربونهم لهو أشّدُ الرّواياتِ حساسيّةً، فمنذُ يوميّن سابقيّن لفتني حديثٌ تناقلتهُ الصّحف العالميّة، يتحدّثُ عن فتاةٍ ألمانيّة فُقِدّ أثرها في منطقةٍ حدوديّة بين دولتي ألمانيا والتشيّك.

لمْ أرغبُ الكتابة حينها؛ لأنني ما زلتُ أشعر أنني متأثّرةً بصورةٍ سلبيةٍ بعد سردي، منذ أيّامٍ، لواقعتي التّحرّش، حيثُ أنني ودّدتُ الخروج من القصّتين بمقالٍ جديدٍ مبهجٍ يضع نهايةً لكلّ ذلك البؤس، وكنت وأنا أقرأ، أقول لنفسي لن أكتب عن هذه القصّة، لكني سأتابع قراءتها حتى النّهاية لأريح نفسي بنبأ، ولكن تشجّعت بعد الانتهاء من القراءة، وها أنا أقصّ التّفاصيل، من مقتبسٍ عرضها باللّغة الفرنسيّة، إذّ يقول: “بينما كانت في إجازةٍ مع والديها في منطقة “بافاريا” الحدوديّة الألمانيّة التّشيّكيّة، تاهت جوليا، ذات الثّمانيّة أعوام، برفقةُ شقيقها، وابن عمّها، عن الأنظار في الوقت الذي كانوا به يمرحون بمحاذاتهم.

عندما شعرت العائلة لوهلةٍ ما بصمت المكانْ حولها، سارعوا للبحث عنهم ظناً منهم أنهم في الجوار، لكن الأمر كان مُقلقاً بالنسبة للوالدين بعد دقائق قد طالت.

مما جعل من العائلة طلبُ استدعاء عمال الإنقاذ الذين تمكنوا من إيجاد الطفلين، لكن بعد مرور وقت ثقيل، بمساعدةٍ ملفتةٍ من سكّان المنطقة، حيث كثّفت السّلطات التّشيكيّة والألمانيّة محاولاتهما في البحث، وأشترك بالمهام رجال الإطفاء، والشّرطة، كما أن عمال الإنقاذ طلبوا من الطائرات ألا تظفر جهداً في البحث والاستدلال عن مكان الأطفال، بالإضافة لمجموعات من الكلاب تشمّ آثارهما في الأراضي.

الجهودُ جميعها كانت مركزة حولُ البحث عن جوليا، وعشتُ حينها يومان يملئهما الحرص على المتابعة لكلّ جديدٍ للصحافةِ البافاريّة، وفي كلُّ يومٍ أنتظرُ الجديد بقلقٍ واضح، حتى جاء مساءُ البارحة، عندما عُرض خبرٌ مفادهُ: “عادتْ جوليا حيّةً”.

ارتجفتْ قدماي، ويداي مع سماع ذلك الخبر، ربّما لأنّني طوال اليومين كنت ألتمسُ مشاعر طفلةٍ صغيرةٍ تائهة في غابةٍ كبيرة، لا يوجدُ فيها شيء تحتمي به سوى السّماء، وزاد الأمرُ ارتجافاُ بعد كلام المتحدّث باسم شرطة “فلوريان بيك”، البارحة، للإذاعة الألمانيّة، حيثُ قال: “لقد ذرفتُ دمعةً أو اثنتان عند سماع خبر إيجاد جوليا، حيث لمْ يسبق لي أن شهدتُ لحظةً من الارتياح، كتلك اللحظة على مدار حياتي المهنيّة”.

كانت كلماتهُ شبيّهة بمشاعر الوالدان اللذان قد طمئنا العالم عن ابنتهما، وصرّحا: “لم تصب جوليا بأذى لكنها مصابة بالحمّى”.

أعادت إليّ هذهِ الحكاية، تصوّرات كلّ عائلة وجدتْ ابناً تائهاً، أو ضائعاً بعد رحلة بحثٍ مريرة، وشعرتُ بالانكسار على كلّ عائلةٍ أضاعت فرداً منها، ولم تتمكّن من إيجاده”.

مع نهاية الخبر أمسكتُ بقلمي من جديد لينطلق، وسارعت في نقل الخبر إليكم، فنشوة لقاء هذه الفتاة بأهلها غمرتني بسعادةٍ كبيرة، وبدوري رغبتُ أن تصلكم هذه الطّاقة الجديدة، فجوليا عادتْ، كما سيعودُ يوماً كلّ ضائع إلى ذويّه كان قد فُقد برحلةِ الطريق.

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
1 تعليق
الأحدث
الأقدم الأكثر تصويت
Inline Feedbacks
عرض كل التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى