أحدث المقالاتأهم المقالاتإقرأ

شظايا …

الدكتور ممدوح حمادة

بعد كلّ غارة يقوم بها طيران العدو، كنّا أوّل من يحضر إلى المنطقة التي تمّ قصفها وإلى محيطها، ليس لإنقاذ الجرحى أو تفقد الخسائر كبقيّة القادمين، فنحن لم نكن نهتمّ بذلك، كان هدفنا الحصول على أكبر كميّة ممكنة من الشّظايا التي كان يحمل كلّ منّا جعبةً مليئةً منها.

جمَعَها من المرّات السّابقة التي تمّ فيها قصف مواقع مختلفة أو ربِحَها في رهانات “الطّرّة والنّقش”، التي كنّا نمارسها في المدرسة أثناء فترات الفرص بين الدّروس، وفي الحارة حتى حلول المساء، ولهذا فقد كان القصف الذي يثير الرّعب في نفوس الجميع، ويتسبّب في إثارة أعمدة الدّخان، وغيمات الغبار، ويكسّر زجاج نوافذنا، ويوفّر لـ”زمور الخطر” فرصة للعمل، كان بالنسبة لنا بعد انقشاع حالة الخوف، وتلاشي أصوات الطّائرات، مصدراً للفرح، حيث كنّا ننطلق راكضين بكلّ ما أوتينا من سرعةٍ إلى مكان القصف لنجمع ما نستطيع من الشّظايا.

كان كلّ من نبيل وتيسير أوفرنا حظاً في جمع الشّظايا، لأنّ كلاً منهما كان يملك دراجة هوائيّة، ولذلك فقد كانوا يصلون إلى موقع القصف قبلنا بوقتٍ لا بأس به، كان يسمح لهم بانتقاء أفضل الشّظايا، فليست كلّ الشّظايا بنفس المستوى لدى لاعبي “الطّرّة والنّقش”، كان هناك شظايا كبيرة تصل إلى حجم راحة الكفّ أحياناً وربما أكبر، وكان هناك شظايا بحجم الإصبع، هذه كانت لها قيمة خاصّة لدينا، وكان واحدنا عندما يُشرف على الإفلاس يستبدل الشّظيّة التي بحجم الكفّ بخمس شظايا بحجم الإصبع، حتى أن بعضنا كان يسميها (خمسة أو عشرة) مقارناً إيّاها بالخمسة والعشرة قروش.

نبيل وتيسير كانا دائماً محطّ حسد الجميع، وأعتقد جازماً أن قسماً كبيراً منّا كان يكرههما، ويعتبرهما سبب حرماننا من فرصة الحصول على شظايا قيّمة، بسبب امتلاكهما للدّراجتين، وحدث أكثر من مرّة أن قام مجهولٌ بثقب إطار دراجة أحدهما لكي لا يتمكّن من الوصول قبلنا إلى المكان، ولا أنكر أنني في إحدى المرّات كنت ذلك المجهول، حيث قمت باستغلال فرصة اختباء تيسير، والجميع منشغلون من داخل مخابئهم بمراقبة القنابل التي كانت تلقي بها الطّائرات، والتي تهيَّأ لنا أنها ستسقط علينا، وقمت بثقب إطار الدّراجة، لم يشعر تيسير بذلك إلا بعد أن قطع قرابة المائة متر، ولذلك ترك دراجته، وركض معنا، وقد كان لذلك نتائج جيّدة، فقد تمكّنّا من جمع شظايا جديرة بالاحترام وقتها.

آخر مرّة ذهبنا فيها لجمع الشّظايا كانت بعد قصف موقعٍ يبعد عن المدينة أكثر من عشرة كيلو مترات، ولذلك فقد سبقنا نبيل وتيسير بمسافةٍ طويلة، وعندما كنّا ما نزال في منتصف الطريق إلى الموقع، كان تيسير ونبيل عائدين، وخلف كلٍّ منهما على المقعد الخلفي للدّراجة خُرج مليء بالشّظايا، وكان نبيل في حالة من التّباهي، ينساب بدراجته التي ترك مقودها حرّاً، رافعاً بكلّتا يديه إلى فوق رأسه قنبلة لم تنفجر، توقف قربنا، وناولها لتيسير الذي توقف هو الآخر، قائلاً له:  دورك، ثمّ روى لنا، والفرح يقطر من جميع مساماته، القصّة التي تتلخّص بأنهما، هو وتيسير، عثرا على القنبلة معاً، وأنهما سيأخذانها إلى البيت، وسيقومان باستضافتها بالتّناوب، ويبدأ ذلك بمن يربح الرّهان في “الطّرّة والنّقش”، فطلبا منّا أن نكون الحكّام والشّهود فيها، وقد بحثنا وقتها عن قطعة نقديّة في جيوبنا فلم نجد، ولذلك قمنا بإجراء قرعة أخرى، عبر إخفاء حصاةٍ في إحدى اليدين يفوز فيها من يحزر في أيّة يدٍ هي، وقد فاز فيها تيسير بتواطئٍ من هاني الذي غمز له بعينه اليسرى، فأدرك تيسير في أيّة يدٍ هي، وفاز في الرّهان الذي تقرّر بعده أن تبيت القنبلة ليلتها الأولى عنده.

سمح لنا تيسير ونبيل بالإمساك بتلك القنبلة، فكنّا نتناقلها كلاعبي فريق كرة قدم فازوا بالبطولة، وأخذوا يتناقلون كأس البطولة بين أيديهم، وكم شعرت بالسّعادة وأنا أحتضنها، وتمنيّت أن تبقى بين يديّ أكثر، ولكن تيسير سحبها من يدي كما لو أنه كان يخشى أن تقع حبيبته في هواي، بينما كان نبيل ما يزال مستمراً في شرح المشاعر التي انتابته في اللّحظات الأولى التي عثر فيها على القنبلة.

تابع الاثنان طريقهما على الدّراجتين، وكان أحدهما يغني أغنية لم أتمكن من سماع كلماتها جيّداً، وتابعنا الرّكض إلى موقع القصف، ولم تمضِ لحظاتٍ قليلة على افتراقنا حتى سمعنا دوي انفجارٍ رهيب خلفنا، جعلنا نتوقّف لاهثين لالتقاط الأنفاس، ونلتفتُ إلى الخلف بحالةٍ تشوبها الصدّمة، حيث شاهدنا غيمة من الدّخان، كانت في طريقها إلى التّبدّد، ولم نكن بحاجةٍ إلى بذل الكثير من التّفكير لندرك أن الانفجار كان سببه تلك القنبلة، التي كان كلّ منّا قبل لحظات فقط يتمنّى أن يضعها تحت إبطه ويولي بها الأدبار، كما لو أنّه يخطف أميرةً من قصر أبيها.

ركضنا مسرعين إلى مكان الانفجار، ولكنّنا في هذه المرّة لم نجمع الشّظايا، كانت المرّة الأولى في تلك الحرب التي جمعنا فيها الأشلاء.

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى