أحدث المقالاتأهم المقالاتإقرأ

سخافة الحياة

بشار دولة

هّز صديقٌ لي كياني من خلال جملة قال فيها: “كلكم حاصلُ طرحِ آبائِكم منكم، إضافةً لبعض الرّتوش من التّغييرات التي أحدثتموها فيكم، والتي أخجلُ أن أسميها تغييرات، وعلى فكرة الآباء حاصل طرح أجدادكم منهم، وهكذا تستمر سخافةُ الحياة على هذا المنوال”.

قدّ فكرتُ في كلامه كثيراً، وأنا في طريق العودة إلى البيت، وجعلتُ أطابقُ كلامه على واقعنا كبشرٍ نعيشُ في دول العالم الثّالث، فنحن نعيش لما عاش عليه آباؤنا، نتديّن بالدّين الذي استفاقوا عليه، نتحزّبُ بالحزب الذي أحبّوه، نمارسُ طقوساً ونتبنّى عاداتهم من دون تفكير، نأكل الأكل الذي كانوا يأكلونه، وبالطريقة ذاتها، نفرح بنفس طرائقهم، ديدننا في الحزن لا يختلف عنهم أبداً، على الرّغم من مرور عقود على غيابهم، وهنا استذكر ما قاله والد صديقً لي: “يا ابني نحنا فقرا، ورح نضل فقرا”، حيث ذكر لي هذا الصّديق منزعجاً: “إذا هوي عاش فقير، ضروي صير متلو؟”.

يُعرف “هيجل” الفيلسوف الألماني التّاريخ على أنّه حركة منطقيّة جدليّة، المبدأ الأساسي فيه هو التّغيّير، فلا شيء خالد لدى “هيجل”، فتخيّلوا حتى أنّ الواحد منّا يسمّي ابنه على اسم أبيه، قال لماذا؟ ليستمر ذكر أبيه؟ أتريد لابنك أن يكون نسخةً عن أبيك الذي مات؟ أتريد أن تربّي أبيك مرّةً أخرى؟ يا رجل!!، بالفعل نحن نعيدُ أنفسنا، ونعيدُ كرّةَ الزّمان كما هو، كاذبٌ هو من قال أنّ التّاريخَ يعيد نفسه، لا بل إنّنا نعيد التّاريخ، التاريخُ بريءٌ من كسل تغيّير ذواتنا ومجتمعاتنا، بريءٌ من سخافة إعادة إنتاج أهلينا.

سخافة الحياة

حاول القرآن الكريم دائماً توجيه الاتهامات لكلّ الأقوام الذين ظلّوا على ما ألفوا عليه أجدادهم وآبائهم، مُتّهماً كلّ المجتمعات التي تبقى على آثار الأجداد، بعدم التّفكّر والتّحرّك والتّطوّر سواء من النّاحية الإيمانيّة أو الاجتماعيّة الثّقافيّة، فمرّةً ذكر القرآن: “وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون”، وفي موقعٍ آخر ذكر أيضاً: “وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشّيطان يدعوهم إلى عذاب السّعير”، وآياتٌ كثر جاءت في هذا الصّدد.

في ثلاثينات القرن الماضي درس “إلتون مايو” في مصنع “هوثورون” الكهربائي في شيكاغو، فوجد أن الإنتاجيّة قد زادت حين رفع مستوى الإضاءة في المصنع، وحين خفض مستوى الإضاءة إلى الأقل من المعتاد، ازدادت الإنتاجيّة مرّة أخرى، ثمّ زادها مرّة أخرى، فزادت الإنتاجيّة للمرّة الثّالثة.

العمَال لم يتجابوا مع الإضاءة بل مع حقيقة أن أحدهم كان مهتمّاً بما يفعلونه، وحاول تغيّير شيئاً من ظروف العمل، فزادت الإنتاجيّة.

يُعيد السّخفاء أنفسهم على مرّ التّاريخ مع تطوّر الأدوات والمنصّات التي يمارسون فيها سذاجتهم، لكن الأذكياء ومحركي العقول دائماً ما يأتون بكلّ جديد، يظهرون في حللٍ جديدة وأثوابٍ مختلفة، لا تتشابه أيّامهم أبداً، يقول علي بن أبي طالب: “من تشابه يوماه فقد غبن”، فمن لم يتحرّك لن يدرك التّغيير، هذه سنّة الكون، علاقات الحبّ والعاطفة تحتاج دائماً للتّغيير والتّجديد حتى لا يتدخل الرّوتين والملل في فضّ العلاقة، في أماكن العمل أيضاً، ينبغي على الرّؤساء والمدراء التّجديد في العمل لتحريك الموظّفين؛ لتفتيح مدارك إبداعهم ،وحثّهم دائماً على الأفضل، على الإنتاجيّة، حتى الدّول التي تُبقي على آثارهاِ القوميّة والسّياسيّة والدّينيّة وعقليّاتها على مرّ العقود، لا تتغيّر أبداً، ودائماً ما تبقى في مصافي الدّول المتأخرة، وأمثلتي كثيرة في العالم العربي.

قلّ ما تجد كوكباً في مكانه، أو نجماً يظلّ ساكناً، خُلق هذا الكون ليتحرّك، خُلقت أعضاء الإنسان بشكل ديناميكي، ليس لتسكن.

قال الشّاعر: والشّمس لو ظّلت في الفلك دائمة     لملها الناس من عُرب ومن عجم

فهل ستقول أنت الجملة ذاتها؟ هل ستؤمن أن هزالةَ التّاريخ أنّه يعيد نفسه؟ أم ستكون في صفّ من يقرع طبول التّغيير؟

سخافة الحياة

ريتينغ برودكشن

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى