أحدث المقالاتأهم المقالاتإقرأالمقالات عامةبقلم رئيس التحريرمقالات عشوائية

سامي مبيض يصنع أملاً بالأبيض والأسود

رئيس التحرير: عامر فؤاد عامر

لونان اثنان، ملفتان للأنظار. يرى البعض أنهما دقّة قديمة، لكن في الحقيقة لا يمكن الاستغناء عنهما في يوميّاتنا، لأنّهما حكاية التّاريخ القريب! وعلى الرّغم من النّزعة الكبيرة نحو التّلوين، ونحو الألوان التي تعكس الحياة الصّاخبة والمستقبل القادم، إلا أنّ الدكتور سامي مروان مبيّض يعكس الحياة السّوريّة بأبعادها الماضية والقادمة، ومن خلال الأبيض والأسود فقط.

بالأبيض والأسود

نقلات زمنيّة وتطوّرات حياتيّة رصدها “مبيّض”، في مقاطع سينمائيّة أو فيديوهات نادرة عن سورية ما بين 1919 وحتى 1970، جميعها مقاطع مثيرة تؤكّد كم عاشت البلد أحداث ومناسبات لم تعشها بلادٌ أخرى غيرها، فمن الجميل أن تشاهد الترامواي المُستخدم في دمشق منذ العام 1907 وحتى مطلع عهد الانفصال بين سورية ومصر 1962، ومن المبهج أن تشاهد لقطات لسورية من الجو بالأبيض والأسود مع نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، ومن المفاجئ أن تشاهد غرق سكان دمشق بالماء في العام 1955 أو ما كان يسمّى “زودة بردى” …

تراموي دمشق
فيضانات دمشق 1955

لكن أيضاً هناك أحداث مؤلمة كشهادة فخري بك البارودي بعد قصف القوّات الفرنسية للعاصمة دمشق في 29 أيار من العام 1945 يروي الفاجعة بالصّوت والصّورة غاضباً من الهمجيّة وتدمير التّاريخ، ودخول القوّات الإنكليزيّة بالدّبابات إلى سورية 1945 للإشراف على انسحاب القوّات الفرنسيّة من شوارع دمشق، وغيرها من الأحداث، وعلى الرّغم من حضور ثنائيّة (أبيض، أسود) في التصّوير فقط إلا أن لون الدّم والخراب يصلنا فوراً.

فخري البارودي ومشاهد من خراب دمشق بعد العدوان الفرنسي 1945

في جعبة د. سامي مبيّض الكثير من هذه التّوثيقات، لكن المفاجئة بأنّه لم يحصل عليها من سورية على الرّغم من أنّها مصوّرة فيها، وبكاميرات سوريّة، فقد عثر عليها في أمريكا أثناء بحثه وتنقيبه عن التّاريخ! ومن بين الأشياء المميّزة أن تجد الصّورة السّينمائيّة المتحرّكة الوحيدة لحسني الزّعيم صانع الانقلاب الأوّل في تاريخ سورية 29 آذار 1949، وأيضاً أن تتلقى منه تعليقاً على التّسجيل الصّوتي الوحيد لأديب الشّيشكلي في بداية خمسينيّات القرن الماضي … والمزيد المزيد من الأحداث السّياسيّة مثل خطاب الرّئيسين جمال عبد الناصر وشكري القوّتلي يوم إعلان الوحدة بين سورية ومصر من شرفة قصر الضّيافة – أبو رمانة في العام 1958، والتّصويت على هذا الاتحاد في دمشق من قبل مريم فخر الدين، وصباح، وعبد الحليم حافظ، وعديد من الوجوه المعروفة من ممثلين ومطربين، وكلّ ذلك في فيديوهات مصوّرة بالأبيض والأسود.

عبد الحليم حافظ وصباح وغيرهم شاركوا في انتخابات الوحدة بين سورية ومصر

وجوه كثيرة عاشت وماتت في بلادنا عرفناها عبر الكتب وعبر المسلسلات والأفلام، فها هو فارس بك الخوري يتحدّث بالإنكليزية بطلاقةٍ، ممثلاً سورية في المؤتمر التّأسيسي للأمم المتّحدة، والملك حسين وهو بعمر 21 عاماً يزور دمشق في قصر المهاجرين في دمشق نيسان 1956. الرّئيس جواهر نهرو في دمشق 1958. تشي غيفارا في دمشق في العام 1959، والآغا خان في دمشق 1959 … لا يمكن أن ينتابك، وأنت تتابع هذه المقاطع إلا الفخر والاعتزاز بهذه البلد التي زارها أهمّ الأقطاب على مستوى العالم وعرفوا قيمتها.

الملك حسين – تشي غيفارا – الآغا خان وزياراتهم إلى دمشق

المثير للانتباه أيضاً  صورة المرأة السّوريّة عبر هذه المقاطع المصوّرة، فمن دون قصد عين الكاميرا ترصد حركة الناس، وما تلتقطه في الطّرقات والسّاحات والبيوت والأماكن العامّة والخاصّة، فتجد المرأة السوريّة منطلقةً بأبهى حلّة، الشّعر القصير، والطويل المفرود على الكتفين والوجوه المبتسمة والجدّيّة، الفساتين الطّويلة والقصيرة، والمتدرّجة بالألوان الغامقة والفاتحة، على الرغم من أنّ الرّصد بالأبيض والأسود، وها هي تحتفي بالمرأة العربيّة من خلال المؤتمر النّسائي العربي في الثاني من كانون الثاني من العام 1958.

لقطات من المؤتمر النسائي العربي في دمشق 1958

واحسرتاه على الدّراما ومسلسلات البيئة الشّاميّة التي دمّرت صورة المرأة السّوريّة، والدّمشقيّة على وجه الخصوص، كما في مسلسل باب الحارة وغيره، فألبست تاريخها عنوةً لوناً أسوداً وعباءةً عثمانيّةً، وحذفت منها الحياة نهائيّاً، وصدّرتها للعالم أنّها كانت ذليلة ولا تعيش إلا تحت سطوة الرّجل سيّدها وتاج رأسها! ما الذي جعل من كبار صنّاع الدّراما الشّاميّة يخفقون هذا الإخفاق ويقدّمون هكذا تنازل؟! فشكراً للدكتور سامي مروان مبيّض الذي ينوّر بما يمتلك من إضاءات تكشف الزّيف وتقدّم الوثيقة الصّحيحة بعيداً عن التّلفيق والتّزوير.

صورة المرأة السورية وتشويهها من خلال باب الحارة وغيره

توجهنا بالسّؤال للدكتور سامي مبيّض عن أهميّة التّوثيق اليوم، وكانت الإجابة: “في فترات الحروب والمحن تحتاج النّاس إلى العودة إلى التّاريخ، ومن الملاحظ أنّ التاريخ المعاصر القريب له مغزى أكثر بكثير من القديم، فالتاريخ القديم نجده في الورق شخصيّاتٍ مكتوبة في الكتب، أمّا التّاريخ المعاصر الذي أتحدّث فيه فهو بعمر خمسين وستين إلى مائة سنة فقط، لكن النّاس قادرة على رؤية شيءٍ يشبهها، كأحداث وشخصيّات تعلم عنها وتسمع بها، قرأتْ عنها في الكتب؛ ولكن بطريقة جافة، فمشكلة مادّة التّاريخ أنها تصدّر كمادّة جافّة ومملّة، بالتّالي لا يمكن قراءتها.

أصبح في ظلّ الحرب عودة للتّاريخ بأشكال متعدّدة، ووسائل الـ”سوشال ميديا” صنعت حالة مزيّفة، فلا ضبط لكم المعلومات الهائل الذي انتشر، هناك الصحيح وهناك الخطأ، ولا يمكن لأحد أن يديرها ويضبطها بالشكل الصحيح، الفضاء مفتوح بالكامل، ومن جهتي وجدت أنّه لا بدّ من وجود جهة تعطي الرّواية الصّحيحة، لعل وعسى أن نقدر على مواجهة ومضاهاة المعلومات الخاطئة المنتشرة، وكما أنّ اليوم هناك جيل جديد لا يعرف عن هذه الشّخصيّات والأحداث شيئاً، ولذلك دور التّوثيق أصبح مهمٌ جدّاً”.

الدكتور سامي مروان مبيض في إحدى محاضراته

ريتنغ برودكشن

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى