أهم المقالاتإقرأمواهب واعدة

أحلام سارا…

بعد مراجعة عدد من المواد التي تلقيناها منكم في “الباب مفتوح”، وهو الرّكن المخصّص للمواهب من كلّ أنحاء الوطن العربي، اخترنا لكم هذا النّص الذي أرسلته لنا “سارا”، التي تكتب باللغتين الإنكليزيّة والعربيّة، ووجدنا أنه يستحقُّ النّشر، وهي بوادر كتابة أدبيّة نعرضها بكلّ محبّة في باب “من أجمل ما قرأت”:

تهزّني أيدٍ مألوفة على كتفي، وتدعوني لأفتح عيناي للضوء، استيقظتُ من النّوم، وشعوري بأنني لا أعرف أين أنا، والذي لم أحبّذ استذكاره أنني بقيتُ مستيقظةً لوقتٍ متأخر جداً ألعب لعبة الفيديو المفضّلة لدي على جهاز الكمبيوتر الخاصّ بي. 

قرّرت فتحَ عيناي؛ لأرى وجه أمّي كعادته، جالباً لي الرّاحة، والدّفء على الفور، لكن هذه المرّة كان الأمر مختلفاً، فقد جعلني مظهرها القلِق أن أضبط من هدوئي ثم أستيقظ مسرعةً. 

قالتها باللغة العربيّة: “هيا لنذهب”، وأمسكت بيدي فقط، لتخرجني من أغطيتي الدّافئة والآمنة، وفوراً التقطتُ بعضاً من الملابس بشكلٍ عشوائي، وشعوري أنني التقطتها في حلمي، وبينما كنّا نسرع في نزولنا معاً على الدّرج مغادرين مكان سكننا، رأيتُ والدي، وأختي الصّغرى، ينتظراننا بجوار السيّارة.  في هذه اللحظة بالذّات أدركت ما كان يحدث، ركبت مقعدي في السّيارة، وتذكّرتُ وداعنا لأصدقائنا الذي كان قبل يومين. 

نحن “أنا وأسرتي” في الواقع نترك بيت طفولتي، لم أرغب في المغادرة، كنت أرغب البقاء والاستمرار في السّهر ولعب ألعاب الفيديو، لا مشكلة الآن فيما سألعب، لتكن أيّ لعبة، وأثناء هذا الجدال الدّاخلي أردت البقاء فقط، لا أريد شيئاً غيره. ولكن بفضل المحادثات العديدة التي أجريتها سابقًا مع والدي، الذي كان يكلّمني، كأنني كبيرة في السّن وناضجةً جدًا، وفي الحقيقة ما زلت في عمر السّبع سنوات، علمت أنّنا سنغادر بسبب الحرب التي وقعت في إحدى المدن التي قدمنا إليها تاركين روما خلفنا، روما التي أمضيت فيها أوّل عامين ونصف من عمري، أمّا المدينة الجديدة التي أتركها الآن فهي مدينة حماة السوريّة. 

على الرغم من أنني كنت انزعج كثيراً من جدّي لأمي بسبب إشعاله التليفزيون لمشاهدة الأخبار فقط، في الوقت الذي كنت أرغب فيه مشاهدة الرّسوم المتحرّكة، إلا أنني أشكره كثيراً في دواخلي الآن، وذلك لقدرته على رؤية ما يجري في بلدي وتقديره جيّداً للأمر.

بالنظر إلى كلّ هذه المجريات الآن، أصبحت أدرك أكثر الدّرس الذي جعل من والدي يحاول تعليمي إيّاه طوال حياتي، وهو ألا أشعر بالرّاحة والاطمئنان أبداً، وأن أبقى على حذر سواء كان ذلك في أيّ مكانٍ أرتاده أو بين الأصدقاء أو مع حبيبٍ أو أيّ شيءٍ آخر يمكن تخيّله، لقد أراد مني إدراك أن لا شيء يستمر إلى الأبد  مهما اعتقدنا ذلك، بل قد تأتي خيبة الأمل في أيّ لحظة، هذه حقيقة عشتها عندما اضطررنا الانتقال من حماة إلى دمشق، لكن وعلى ما يبدو أنني لم أتقن هذا الإدراك كفايةً، فقد أغرقت في راحتي ضمن عوالم دمشق من جديد ومع الأصدقاء الجدد الذين عرفتهم هناك، وأقول ذلك لأن ساعة الرحيل قد أزفت مُجدداً وغادرنا إلى روما بعد عامٍ فقط.

بالطبع لم أتعلّم الدّرس هناك أيضاً، فقد عُدّت لممارسة نشاطاتي وكأنني سأستقر كلّ العمر في روما، فتابعت الدراسة وبنيت علاقاتٍ أخرى جديدة، وأمضيت وقتي الجديد على مدار عامٍ وتسعة أشهر، وغادرنا بعدها إلى الإمارات العربيّة المتّحدة، تألّمت كثيراً عند وداع الأصدقاء في روما، ولكن ليس باليد حيلة.

وصلنا أبو ظبي، وشعرت بالذّهول خلال سنوات المراهقة، وبكلّ أمانة يمكنني القول أنني تعلّمت أخيراً أن المزيد من الأشخاص سيدخلون حياتي وسيرحلون منها، لقد استغرق الأمر وقتًا أطول من الوقت الذي أمضيته في محاولة فهم دروس مادّة الرّياضيات، لكن الأمر كان يستحق هذا، لأنني امتلكت الشّخصيّة القويّة، والعقليّة المُختلفة.

عند هذه المرحلة الزّمانيّة من حياتي بقيت مدّة ستةً أعوامٍ ونصف العام، اعتقدت بعدها أن حياتي هدأ ضجيجها، فقد كثر الأصدقاء وتجذّرت أيّامي في المكان، وإذّ بوالدي الغالي يخبرنا بأننا سنغادر البلاد من جديد، وهذه المرّة إلى “لوس أنجلوس” الأمريكيّة، وبقيت لأشهر أندب هذا الحظ وأبكي، كيف تركنا أبو ظبي، البلد الأنيق، الذي شعرت فيه بأنني ألتمس الاستقرار والحياة الهادئة، وكانت أمريكا أكثر شحوباً في الانتقال إليها، لا أعلم كيف أتأقلم مع حياتي الجديدة فيها، وما زلت أغالب مشاعري التي ترّحل بي كلّ حينٍ إلى الشرق، هذه هي البلاد التي يحلم فيها كثيرون على كوكب الأرض للمجيء إليها والاستقرار فيها، لكنها لا تشبهني بل لا تشبه أحداً من عائلتي، وتمرّ الأيّام مسرعةً، وإذا بوالدي يخبرنا بأننا سنغادر قريباً إلى دبي!

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
4 تعليق
الأحدث
الأقدم الأكثر تصويت
Inline Feedbacks
عرض كل التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى