رسالة لقيط

يحدثُ أنّ يتهاوى سقفُ الوطن بأبنائهِ للقاع، بطريقةٍ جهنميّة، فتصبحُ مزاريب طرقاتهِ مأوىً للحديث، ويصبح سادتُهُ عبيداً بيد الزّمان وتقلّباتهُ.
بلدُ الياسمين أم موطن الطّوابير، موطن الشّمس أم بلدُ البطاقات، عكوسٌ لربّما تضعك في رحلةٍ طويلةٍ من التّفكير، أكنت من هذا المكان أم غريباً عنه.
يعزُّ عليّ اليوم أن أكتب ما أكتب والحكايات كثيرة، فهذا طفلٌ مرميٌّ، وهنا طفلٌ آخر وُجِدَ بكرتونة، وثالثٌ أمام مستشفى، والأمر في تزايد أمام حججٍ قاسية ومريرة.
“ليا” وأخوتها…
ذاع صيت “ليا” مؤخّراً، من اللاذقية عروس السّاحل السّوري، الطّفلةُ اللّقيطة أو “روح” كما أحبّ البعض أن يطلقوا عليها، حيث تداولت صفحات الـ”سوشال ميديا” صورتها بحثاً عن ذويها، كنوعٍ من المساعدة ووضع حدٍّ لمشكلتها.
تظافرت جهود الجميع بحثاً عن عائلة تحتويها، عائلة بحاجة تبنّي طفلة، لكن للأسف ما من أخبار تُسرّ الخواطر، إذ ظهر لقيطٌ آخر في مدينة حماة، وثالثٌ في السّويداء، ورابعٌ في دمشق، وكأنّ نتائج البحث فتّحت الأعين على جرائم رهيبة بحقّ الطّفولة، وكأنّ الحياة تحوّلت من الاحتفاء بأولادها إلى التّضحية بهم بكلّ بساطة!

هل هو العوز وقلّة الحيلة، أمّ أنّه “مونولوج” سوريانا الجديدة؟!
كلّ ما يدور في دماغ النّاس اليوم، محاولاتٌ للهرب من الجوع، والقهر، بعد أن احتلّت العتمة مكانها بثقة، وشحّت الكهرباء، وزادت مواسم الهجرة بأنواعها، وأصبح الجميع يبحث عن سعادةٍ مسروقةٍ في كلّ مناسبة.
لسنا بالبلد الفقير، ولسنا بالشّعب المحتاج، نحن أبناء الشّمس، ولكنّنا في زمان أصحاب النّفوذ والدّولارات، حيث تحوّل سقف الأماني للبحث عن وفرةٍ أكثر قليلاً في عودة التيّار الكهربائي، وعن دعمٍ اقتصادي هنا وهناك.
المرارات على الأطفال أكثر
الأطفال هم ضحايا كلّ ما ذكرناه، هم ضحايا السّياسات، والخلافات المريرة، فمستقبل الطّفلة “روح” وجميع من وُجِدَ من أطفال في الشّوارع قد يكون رهن الإقامة دار رعاية الأيّتام الشّهيرة، وبمعنىً آخر فراقٌ للحضن الدّافئ نحو حياةٍ قاسية تخلو من مشاعر العطف والحنان التي لن يجدها الطّفل إلا في كنف العائلة.

كأنّ لسان حال – الطفل اللّقيط – بملامحه البريئة؛ ترك رسالة أخيرة لذويه، يقول فيها:
حسناً، لقد أخذتم قرار الفراق عنّي، ولقد علمتُ ذلك عندما استيقظت من نومي، لأجد الوجوه بجواري كثيرة ولكن من دون وجوهكم، اليوم بتُّ أعلم أنّني رحلتُ عنكم، حيث الله سيساند رأسي كلّ ليلة، والأحلام تحوّلت من حضنكم الدّافئ لحضنٍ جديدٍ قد يعطفُ عليّ وقد يتركني لدموعي الكثيرة.
لا تحزنوا لست لكم بكارهٍ، لكن أعلموا أنّني لن أنسى رائحة والدتي الجميلة، لن أنسى دموع أبي يوم رؤيتي ويوم وداعي الأخير، بل سأظلّ أطلب من الخالق صوراً عنكم، تمرّ في منامي لتذكّرني بكم.
لا تحزنوا سأظلّ أردّدُ ما حييّت أنّكم تركتموني لأعيش مغامرتي التي أستحقها، لتزداد تجاربي في الحياة أكثر، وسأعود إليكم حتّماً في يومٍ جديدٍ، بزوادة كبيرة من التّجارب والخبرات، لا تخافوا ليس للعتبِ بل للصّفح الأخير.