التقط ذكرياتك قبل أن تتلاشى

كانت المحاولة السّادسة للاتصالِ بصديقي، حينَ قرّرتُ التّوقفَ. أرسلتُ رسالة نصّيّة وأخرى عبرَ تطبيقِ مراسلة، فقد كانَ عليّ إكمال عملي. عدتُ إلى بيتي متأخراً أفكرُ فيما سأتناولُه سريعاً لأخلدَ إلى النّوم. فجأةً اهتزّ هاتفي، فأجبتُ بسرعة “ألو”، ثمَّ اختنقَ الصّوتُ على الجانبِ المقابلِ في تأوّهاتٍ ونواحِ. مرَّتْ لحظات قبلَ أن أستوعبَ ما جرى، فنطقتُ كلمتين “البقيّة بحياتك”، وانسلَّ أزيزٌ حادٌّ إلى أذنيَّ، فلم أفهم كلّ مفرداتِهِ الممتزجةِ بالدّموع. أذكرُ شَتْماً للفيروسِ الذي أهانَ الأحياءَ والأمواتَ، وأنَّ والدتَهُ مضَتْ من دونَ جنازةٍ إلى مثواها الأخيرِ. أغلقتُ الهاتفَ فاقداً الشّهيّةَ للطّعامِ، وغفوتُ والحزنُ يعصرني.
مرّتْ أيّامٌ حتّى التقينا. قالَ لي: “كنتُ أظنُّنا نبكي على من يموتون لأنّنا سنشتاقُ إليهم ونشعرُ بغيابهم، ثم اكتشفتُ بعدَ رحيلِ أمّي أنّنا نفقدُ شيئاً من أنفسنا معهم”. تردّدَ جَرْسُ هذه العبارةِ في خُلدي، وبدأتُ أفكرُ في أجزاءِنا المفقودةِ معَ الرّاحلين. فهناكَ الكثيرُ مما لا يعرفُهً عنّا سوى أهلُنا وأحباؤنا. مَن سيعرفُ بعدَ رحيلِ والديك تفاصيلَ ولادتِكَ؟ مَن سيتذكرُ كلماتِكَ الأولى والسِّنَّ الأوّلَ والخطوةَ الأولى؟ وشقاواتِ الطفولةِ وأسرارَ المراهقةِ؟ مؤلمةٌ هي الذّكرياتُ التي نفقدُ من شاركونا بها، فكلِّ وداعِ تتلاشى معه ضحكاتنا ودموعنا ومشاعرنا، وفتافيت قد تبدو سخيفةً للآخرين، لكنّها كانتْ حياتنا وحياة من رحلوا. كانت مشاغلَهم وهمومهم، فأصبحَتْ أعضاءَ مبتورةً فقدَتْ الحياةَ، وحلَّ مكانها ألمُ الفقدانِ.

منذُ عقودٍ، وأنا أعبثُ في بيتِ جدّي مع أحفادِه الآخرين، وقعَتْ أيدينا على مفكراتٍ سنويّةٍ احتفظَ بها منذ سبعينيّاتِ القرنِ الماضي. قرأتُ بسذاجةِ الطّفلِ ما فيها، ساخراً من أخطاءِ جدّي الإملائيّةِ وتفاهةِ الأحداثِ المدوّنة. اليومَ أحسُّ بتفاهتي أنا، فيومَ كتبَ عن “توزيعِ سليقِ القمحِ احتفالاً بظهورِ أسنانِ عبد” كانَ ذلك توثيقاً رائعاً لتفاصيلَ صغيرةٍ لكنّها بحجمِ الحياةِ. توثيقاً جعلَ هذهِ الأحداثَ تحيا مجدّداً عندَ كلِّ من سيقرؤها أو يبحثُ عنها. كم غبطتُ جدّي على مواظبتهِ على ملءِ مفكراتِه، فمن غبائي نسيتُ أشياءَ لن أتمكنَ من استذكارِها إلى الأبد، على الرّغمَ من التّطوّرِ المعاصرِ الهائلِ لوسائلِ التّدوين. ليتني أمسكتُ بهاتيكَ اللّحظاتِ في عبارةٍ أو صورةٍ أو تسجيلٍ. يا لتقصيري المذلُّ!
باكراً في عطلتي الأسبوعيّة التّالية، فتحتُ باب بيت أبي بنسخةِ المفاتيحِ التي أحتفظُ بها. دخلتُ متسلّلاً فوجدتُه يجهزُ قهوتَهُ ولمْ أشأ إزعاجَه. التقطتُ بهاتفي خلسةً صورةً لهُ. ووجدتُ أمّي ما تزالُ متمدّدة في فراشِها، فأسرعتُ كالطفلٍ وألقيتُ بنفسي قربها، ففزعَتْ للحظةٍ، ثمّ ابتسمَتْ فحضنتُها. أخرجتُ هاتفي وشغلتُ مسجّلَ الصوتِ من دونَ إخبارِها، ووضعتُهُ فوق طاولةٍ قريبةٍ.
قلتُ: حدّثيني.
سألَتْني: عمّ؟
فأجبتُ: عنّا.
قالت: ألا تعرفُنا؟
فقلتُ: لا. مثلاً، ماذا كانت الأسماءُ المقترحةُ لي عدا اسمي الحالي؟ أو فلنبدأ مما قبلَ ذلك، من يوم تقدمَ والدي لخطبتكِ.
“أيّها المحتال!”، وأطلقَتْ ابتسامةً كسلى، فقلتُ “أمّي، أحبّكِ”.
