إقرأالمقالات عامة

ذاكرة على الجنط … د. ممدوح حمادة

كنتُ أجلس في المقعد الذي خلف السائق في “المكرو” المتوجّه من “البرامكة” إلى “جرمانا”، متوجّهاً إلى الخلف، وعلى موقف المجتهد، صعد رجل، وجلس على المقعد المقابل لي، وبعد أن نفض بيده شيئاً ما عن المقعد، أظنّه فُتات كعكة كان يلتهما رجل نزل على نفس الموقف، ألقى بمؤخرته، وجلس على المقعد، بينما تابع “المكرو” طريقه، ولم نصلْ إلى دوّار باب مصلّى حتى وجدّته يحدّق بي من فوق نظارته، وترتسم على وجهه ابتسامة، ما جعلني أردُّ عليه بابتسامة مجاملة، وأهزّ رأسي تحيّةً، فما كان منه ألا أن مدّ يده مصافحاً، وقال:

– نظراتك الحائرة تقول لي بأنّك لم تتعرّفْ إلي؟

ولكي لا أصدمه بحقيقة أنّني أراه لأوّل مرّة في حياتي، قلت ما أقوله دائماً في مثل هذه المواقف:

– والله الوجه مألوف… لكن تخونني الذّاكرة.

فقهقه، وقال بصيغة السّؤال:

– ههههههه هل كلّ المبدعين هكذا ذاكرتهم على الجنط؟ “لازم تاكل جزر بيقوي الذّاكرة.. السبانخ كمان بيقولوا منيح”.

وعلى الرغم أنني استغربت وصفه لي بالمبدع، وكنتُ غير معروفٍ نهائيّاً ككاتب، فإنني لم أعرف ما أقول، واكتفيت بالابتسام، بينما تابع هو:

– سأقوم بتسهيل المهمّة عليك .. سأعطيك علامة تجعلك تتذكّرني على الفور.. تذكّر السّنة الماضية في ساحة  تسعة وعشرين أيّار.. في السّابع عشر من نيسان.. حتّى أنك تساءلت وقتها لماذا لا نعايد بعضنا بعيد الجلاء؟! فسخِر منك الجيمع.. ما حدث بعد ذلك أمر لا ينسى.. هل تذكرت الآن من أكون؟

ورغم أنّني كنت واثقاً من أن كلّ ما ذكره لا يعني لي شيئاً، فقد تصنّعتُ أنني أُعْمِلُ ذاكرتي، ثم أخبرته بأنني لم أصل إلى نتيجة، فهزّ رأسه متأسّفاً، وقال:

– ما كنت أظنُّ المبدعين هكذا.. كنت أظنّ ذاكرة المبدع قويّة… سأعطيك علامة أقرب، علامة لم يمضِ عليها ستّة أشهر بعد.. إن لم تتذكّرها ستسقط من عيني أنت وجميع المبدعين.

– تفضل.

قلت له فقال:

– الكلب السلاقي الذي عند معمل البلوك، إيّاك أن تقول أنّك لا تذكر القصّة، سأغضب إن فعلت ذلك.

تصنّعت أنّني أحاول التذكّر من جديد، مع أنني كنت متأكداً بأن الكلب السلوقي عند معمل البلوك لم يكن يعني لي شيئاً، ثمّ قلت له أنني لا أذكر، فأعلن عن أسفه قائلاً:

– أنت تفاجئني حقاً .. ما كنت أظنّ أن وضع ذاكرتك متدهور لهذه الدّرجة… أرجو ألا يكون جميع المبدعين مثلك… ذلك كارثة إن كان الجميع مثلك.

كلامه بهذه  الطريقة أثار حفيظتي بعض الشيء، فقلت له بنبرة لا تخلو من التّذمّر:

– يا أخي ذكّرني بنفسك، وتخلّص من هذه المعاناة، أين المشكلة؟

فقال متحدّياً:

– لا .. إن لم تذكر طوعاً سأجعلك تتذكّر عنوة … سأعطيك علامة أقرب … عندما سقط تمثال “عشتار” على الأرض، وتكسّر.. أنت ظننت أنّني أنا الذي أسقطته؟… حصل ذلك أوّل أمس، “ما حلّك تنساها”.

فأعلنت له فوراً، وبطريقة لا تخلو من الانفعاليّة:

– والله يا أخي لا أذكر هذه القصّة نهائياً.

فما كان منه إلا إن نفخ متذمّراً:

– أففففففف هل جميع النّحاتين هكذا ذاكرتهم على الصفر؟

– أيّ نحاتين؟

سألته مستغرباً، فقال:

– ألستَ النّحات؟

فقلت:

– لا لست النّحات.. أعييتني يا رجل.

وكنت أريد أن أقول له عبارة بذيئة، ولكن كان هناك نساء في “المكرو”، فاكتفيت بها كـ”مونولوج” داخلي، وكان “المكرو” قد وصل إلى الموقف، الذي سأترجّل عليه، فاعتذرت منه ونزلت، وبعد أن نزلت خاطبني من النافذة:

– “تذكر منيح ..بلكي إنت النّحات بس نسيان”!

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى