دراسةُ الطّبّ عُقدة العقد!
د. مأمون علواني في حوار خاصّ مع د. فاطمة أحمد

–دكتور مأمون برأيك ما سببُ إقبال الأهالي في البلاد العربيّة على إجبار أبنائهم دراسة الطّبّ البشريّ حتّى وإن كان الابن/ة لا يحبّ هذا التّخصّص؟
لقد كنتُ سابقاً واحداً من الأهالي الذين يعتقدون أنّ دراسة الطّبّ مهمّة، وكنتُ أرى أنّه من الضّروري أن يدرسن بناتي الثّلاث الطّبّ البشري. وهنا ثمّة مسألتان ينبغي الإشارة إليهما. الأولى هي: أنّ مهنة الطّبّ منتشرة وسائدة، ويمكن مزاولتها، والعمل بها في أيّ مكان في العالم سواء أكان عربيّاً أم أجنبيّاً، وفي جميع التّخصّصات. إذاً يتمتّع حامل شهادة الطّبّ بميّزاتٍ خاصّة، وصلاحيّة في العمل عند البنت أو الصّبي أينما وجد، ومهما تغيّر المكان أو الزّمان. في حين أنّ هناك مهن ترتبط مباشرةً باللّغة أو بطريقة التّعليم بمعنى آخر أنّه كان مثلاً، قبل أكثر من عشرين سنة، عمل المعماري أو خريج التّجارة منتشراً ومطلوباً كثيراً. الآن في وقتنا الرّاهن انخفضت نسبة هذه المهن، وخفّ الطّلب عليها، وقسماً كبيراً من خريجي هذه المهن لا يعمل، والسّبب في ذلك أنّ الحواسيب والآلات الحاسبة استعاضت عن الكثيرين منهم، على العكس من الطّبيب الذي يبقى وجوده ضروريّاً على الدّوام.
أمّا المسألة الثّانية هي: لماذا نجبر أبناءنا على دراسة الطّبّ؟ لأنّنا نظنّ أنفسنا، نحن الأهل، نفكّر بمصلحة أبنائنا، ولاسيّما إذا كانت فتاة، فإن توفّي مثلاً أحد الوالدين تستطيع الفتاة الاعتماد على نفسها من خلال مهنتها الطّبّ. هل هذا يعني أنّها لا تستطيع الاعتماد على نفسها في مهنة أخرى؟! نعم تستطيع، ولكن ليس كمهنة الطّبّ البشريّ. ناهيك عن أنّ الكثير من العائلات تفكّر وتميل إلى مهنة الطّبّ؛ لأنّها مهنة مرموقة اجتماعيّاً، وللتّفاخر “بريستيجياً” في المجتمع، فيقولون: “أنا أمّ الطّبيب أو أب الطّبيبة!” هذا ما اعتاده النّاس في المجتمعات على تناقله من مبدأ “ابني أو ابنتي أفضل من باقي النّاس؛ لأنّه يدرس الطّبّ”. وهذه عُقدة للأسف موجودة بكثرة في عالمنا العربيّ، ولمّا نتخلص منها إلى الآن!
لا أخفيكِ هذه العُقدة كانت موجودة عندي أيضاً، فأنا ابن هذه المجتمعات، وأرى كيف أنّ الفتاة في مجتمعاتنا قد تتزوّج وتعاني ربّما فيما بعد مع زوجها ممّا قد يؤدّي إلى الطّلاق، فعندها يكون العمل والاستقلاليّة والاعتماد على النّفس بمهنة مرموقة مثل الطّبّ هي الأفضل لها، ولكنّ الحقيقة هي أنّ الفتاة عندما تدرس وتختصّ في أيّة مهنة تحبّها، ويزداد شغفها بها ستكون حرّة أكثر. هذه هي الحرّيّة التي يضيع مفهومها، للأسف، في عالمنا العربيّ، إذ يفسرها كلّ شخص بحسب أهوائه.

سأحكي لكِ جزءاً من القصّة التي حصلت معي بيني وبين ابنتي سارة. قلتُ لها:
– ادرسي الطّبّ يا سارة. فأجابتني:
– بابا أنا لا أحبّ الطّبّ البشريّ.
– لماذا يا سارة هل من أحد لا يحبّ الطّبّ؟! اختصّي ما تشائين في المستقبل من مجالات الطّبّ، كالطّبّ التّجميليّ مثلاً … “ستقصّين ذهباً”! وستستطعين مزاولتها في أيّ مكان ترغبينه في العالم.
– ولكن يا بابا أنا لا أتحمّل رؤية الدّماء والجروح!
– يا ابنتي قد تنزعجين من هذه الأشياء في المرّات الأولى، ولكنّك ستعتادين عليها فيما بعد!
– بابا لا أريد … أنا أحبّ مجالاً آخر بعيداً عن الطّبّ.
حزنتُ قليلاً، وقلتُ لها: إذاً ماذا تريدين أن تدرسي؟! قالت لي: أنا أرغبُ بدراسة “Artificial Intelligence” أيّ الذّكاء الاصطناعيّ.
بحثتُ بدوري، وقرأتُ، واستقصيتُ عن هذا التّخصّص، فأصابني الذّهول والدّهشة، وقلتُ لها: -أحيّيكِ يا ابنتي! أنا فخورٌ بكِ جدّاً، فقد اخترتِ تخصّصاً مميّزاً، ولربّما تتفوقين وتخترعين شيئاً يخدم فيها البشريّة مستقبلاً، وهي الآن في السّنة الأولى مستمتعة بدراستها.

–بحسب مراقبتك للواقع الحاليّ، ونظراً للتغييرات السّريعة الحاصلة في المجتمعات، ماهي المهن التي ستتصدّر العالم مستقبلاً في الاهتمام والطلب؟
معظم المهن ستتبدّل وتتغيّر، والكثير من التّخصّصات والدّراسات ستلغى نهائيّاً من حياتنا مثل: المحاسبة، والتّجارة، والتّحرير، والتّرجمة، وبعض الأعمال المخبريّة، وسيحلّ محلّها مهن ووظائف وتطبيقات إلكترونيّة لها علاقة بالتّكنولوجيا والذّكاء الاصطناعي، والتي تقوم على الرّوبوتات والبرمجيّات في أداء العمل، وبذلك سيتحوّل العقل البشريّ إلى خوارزميّة مصفوفة كما خلقنا اللّه تعالى في البدء، وعليه ينتهي العالم، بحسب اعتقادي الخاصّ.