ثقافةُ الصّورة تتحكم

إذا لمْ يتوقّف الكذب الحاصل في مجال القراءة؛ فإنّنا لن أقول سائرون إلى الهاوية بقدر ما سأقول أننا سنعمِّقُ الهاويةَ أكثر، فالكارثةُ استشرَتْ منذ أن تحوَّلَتِ الثّقافةُ وقراءةُ الكتبِ إلى موضة، فكما يشتري أحدُهم قميصاً باهظ الثّمن ليبدو لائقاً، وكما تنفقُ نساءُ الصّالوناتِ على مكياجِهن، صارَ الإنفاقُ على الكتبِ ضرباً من ضروبِ المظاهرِ لأجلِ صورِ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعي، لا لأجلِ القراءةِ والفهم، فصارَ شراء الكتاب بحدِّ ذاتِهِ غايةً بعد أن كانَ شراؤه وسيلةً للاطلاع، من هنا نشأ لدينا جيلٌ مثقفٌ بالصّورةِ لا بالحقيقة، ناهيكَ عن كميّةِ الذينَ أٌخِذوا بهذه الموضة، وهُمْ كشأنِ الأكثريّةِ لا يميّزونَ الخبيثَ منَ الطّيبِ فيقرأونَ إذا قرأوا رواياتِ المراهقةِ وما شابهها، من هنا صُنِعَتْ ثقافةٌ وهميّةٌ من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ ثانية ثقافةُ كتبٍ يصحُّ أن تتحوَّلَ مسلسلاً تركيّاً متخماً بالعواطفِ البالية، لكن ليسَت كتباً ترفعُ أيَّ سويّةٍ علميّةً كانت أم أدبيّة.

باختصارٍ فإنَّ هؤلاء تماماً هم الذين علوا المنابرَ الثّقافيّة، وأصبحوا الكتَّابَ والشّعراءَ للجيلِ القادم، هؤلاء الذين يشكّلونَ الواجهةَ اليوم، ويحلَّونَ ويربطونَ وينتقلونَ من الثّقافةِ إلى صناعةِ القرارِ الإعلامي، وبالتّالي الاقتصادي والسّياسي، بصفتِهم واجهاتٍ مجتمعيّة مهمّة، لأنّهم حقّقوا من هذه الصّور كمَّاً من المتابعين، فأصبحوا كما يقال مؤثّرينَ على الرّأي العام، على الرّغمَ من أنّهم هم يتأثّرونَ للآنَ بكلِّ ما يقرأونه، فيقلدونه، ولم يصلوا إلى معشارِ معشار درجةِ الاختمارِ ليصبحوا كتَّابَاً ضاربينَ بعرضِ الحائط قولَ “القلقشندي” في كتابِهِ “صبح الأعشى” (ينبغي على كاتبِ الإنشاءِ أن يكونَ أخَّاذاً من كلِّ علمٍ بطرف) اليوم يكفي أن تقرأ الواحدةُ كتاباً لغادة السمان، وتكتبَ عن نفسِها “فيمينيست” وتتخلّى عن حقيقتِها لتطالبَ بالتّحرُّرِ من جهة، وتصبحَ مستعبدةً من قبلِ جمعيّاتِ النّسويّةِ، وحقوق المرأةِ، اللواتي يطالبنَ بكلامٍ على المنابرِ يقبضنَ ثمنهُ، ولا تنالَ هي سوى احمرار الكفوفِ من التّصفيقِ لهن، ومستعبدةً للرّجل الذي يتاجرُ بأنَّهُ نصيرٌ لها، وهذه أيضاً موضةٌ صارتْ فعالةً لكسبِ ودِّ النّساء، وأخيراً مستعبدةً للحياةِ التي تحرمُها من حقيقتِها، لأنَّها أرادت أن تساوي الرّجلَ حتى نسيَت أنوثتها، صارَ يكفي أن يسمعَ أحدهم أغنيات كاظم السّاهر، ويكتبَ رسالةَ حبٍّ لابنةِ الجيران ليصيرَ نزار قباني ويكتبَ تحت كلِّ عبارةٍ تافهةٍ (بقلمي)، ناسياً أنَّ الأخيرَ كادَ يموتُ تعباً من النّوباتِ القلبيّةِ التي يجلبُها قلقُ الشّعرِ وطبيعتُه، ولنْ يقفَ الأمرُ عندَ حدِّهِ مالم تتطوّع الصّحافةُ والدّراما والمسرح، وكلُّ وسائلِ التّأثيرِ الحقيقيّةِ على الرّأي العام إلى إيصالِ فكرةِ أنَّ كتاباً أو كتابين لا يجعلونَ من قارئيهم مثقّفينَ وأصحابَ قضايا.

قد لا تغيركَ القراءةُ بعد مائةِ كتابٍ أصلاً، فالكتبُ هي تجاربُ أصحابِها وانحيازاتُهم وأذواقهم وثقافاتُهم التّراكميّة، وليست التّجاربُ والأذواقُ كبعضِها مائةً بالمائة، بل على العكس إنَّها كالبصماتِ تختلفُ من شخصٍ لآخر، وليسَ كلُّ ما يُقرأُ يكونَ صالحاً للتّصديقِ وللاستشهادِ بهِ في المحافلِ لنبدو مثقفين ونلوي عنقَ النّصوصِ لنصلَ إلى مكانِ الكلامِ الذي نريد الاستشهادَ به.
قد يقولُ واحدُنا وما أدراني ما القيمةُ ما لم أجرِّبْ قراءة الغثِّ والسّمينِ لأعرفَ نفسي؟
وفي الحقيقةِ لا عاقلَ يقفُ بوجهِ هذا الكلامِ بل يقفُ بوجهِ الادِّعاء الثّقافيِّ والمعرفي من أوّلِ كتابٍ وبضعةِ أسطر، ولذلك كي لا تضيعَ بوصلةُ القراءةِ على آخرِها فإنَّ الأصلَ أن يقرأ الإنسانَ كلَّ شيءٍ وهو عالمٌ إلى أينَ يريدُ أن يذهبَ قبلَ قراءتِهِ، ومن قراءتِهِ يأخذ ما يشبهه ويتأثّر به، ويعلم من لا يشبّهونه من بابِ العلمِ بالأشياء كي لا يصبحَ بغيرِ هويّةٍ، ويصيحَ معَ كلِّ صائحٍ ظنّاً منه أنه سيصبحُ مثقّفاً وكاتباً وما يزيدُهُ هذا عن غايتِهِ إلا بُعداً.
