
يتساقطون كالأوراق؛ الواحد تلو الآخر. لا نصدّق أنّهم يرحلون عنّا بهذه البساطة. هم رقدوا في ذاكرتنا بإصرار، نبادلهم محبّة كبيرة ومشاعر خاصّة؛ لا فيصل في مقارنتها مع أيّ نوعٍ آخر من نفس الصّنف. لماذا أحببناهم؟! ولماذا نحزن بصدقٍ عندما نعلم خبر رحيلهم؟!
قرّرتُ، منذ مدّةٍ ليست بالطّويلة، أن ألتقي بالفنان القدير بسام لطفي، ربّما لأعاود نشاطاً بدأته معه منذ سنواتٍ مرّتْ عبر تسجيلٍ راجعته في الآونة الأخيرة، وها هو يوافق في موعدٍ قريبٍ، وها أنا أُؤجّلُ الموعد! وأندمُ الآن على ذلكَ التّأجيل.

بحوزتي ذلك التّسجيل الصّوتي؛ الذي يؤنسني ويواسيني قليلاً، حيث يتحدّث فيه الفنان بسام لطفي عن تجربته في الفيلم الطّويل “المخدوعون”، ومنه أوجزت لكم ما قاله، هذا الإنسان الخاصّ، القادر بحضوره أن يجتمع كلّ سوري على محبّته، وكلّ عربي على احترامه، وكلّ محبّ للغة الفنيّة في تقديره.

يبقى أن أستذكر معكم بعض المعلومات المهمّة حول فيلم “المخدوعون”، والمخرج توفيق صالح، الملقّب بمخرج الجوائز، رائد السّينما الواقعيّة في مصر والعالم العربي، فقد كان إخراجه لهذا الفيلم تحدّياً ونجاحاً، في مرحلة جاءت بعد نكسة حزيران في العام 1967، وبعد وفاة الرّئيس جمال عبد النّاصر، في مرحلةٍ كان الشّارع العربي يزداد فيه احتقاناً، وجاء الفيلم مليئاً بمشاعر الغضب والحزن …

المخدوعون
فيلم مأخوذ عن رواية “رجال في الشّمس” للأديب الكبير غسان كنفاني، يُعدّ من أهمّ إنتاجات المؤسّسة العامّة للسّينما.
محطّة مهمّة للسينما العربيّة
عن الفيلم ذكر الرّاحل بسام لطفي: “هو أحد المحطّات المهمّة في تاريخي الفنّي، لطالما تابعتُ ردود فعل النّاس في كلّ مكانٍ عُرِضَ فيه … أذكر أنّ الفيلم عُرض في 6 صالات في باريس، وذلك بسبب التّهديدات المتكرّرة لكلّ صالةٍ، بعد عرضه، بالحرق والتّدمير من قبل الصّهاينة …”.

توفيق صالح
عن التّجربة مع المخرج توفيق صالح قال “لطفي”: “كان لقائي الأوّل معه صعب، فبعد إبلاغي بموعدي معه في المؤسّسة العامّة للسّينما في دمشق، وصلت في الموعد المحدّد، وكان يضع رجليه على الطّاولة، رميت بسلامي، لكنّه لم يردّ ولم يُنزل رجليه، فانزعجت منه ومن تصرّفه، قلت في قرارة نفسي لا أريد هذا المخرج، وسأرفض الدّور بسبب تصرفاته.
ما حصل هو أنّه بادر بالكلام عن بطولتي في فيلم “السّكين”، حيث قال لي: شاهدت الفيلم، ولن أقول رأيي فيه، فأنت الآن أمامي. لحظتها أنزل رجليه، ووقف، ثمّ همّ باتجاهي ليعانقني بكلّ محبّة، يهنئني على أدائي فيه، وأجلسني إلى جانبه، وباشر الحديث فوراً عن فيلمه الجديد “المخدوعون”.

سورية – تدْمر
اقتطف بعض الكلام من حديثه عن العمل في فيلم “المخدوعون”، والمعاناة أثناء التّصوير عن مشاهد راسخة في البال، حيث استذكر القدير بسام لطفي: “أذكر في تصويرنا لمشاهد الغروب في تدْمر، فقد استيقظنا مُبكراً، ونزلنا إلى المطعم. تواصلت أنا والممثّلين مع المخرج، نسأله بعض التّفاصيل عن المشهد، لكنّه كان متجهّم الوجه، لم يردّْ على أيٍّ منّا، خرجَ ولم ينطق بحرف.
بذلنا جهدنا، وقدّمنا ما استطعنا من عمل، وكان المخرج “صالح” يراقبنا ويلتقط كلّ التفاصيل، حتّى نقطة العرق التي سقطت من وجهي نحو رمال الأرض صوّرها باهتمامٍ بالغ … بعد كلّ ذلك جاء إلينا وعانقنا فرداً فرداً، وقال: قد تقصّدتُ استفزازكم حتّى أرصد ردود الفعل المناسبة للمشاهد …!”.

العراق – البصرة
أردف الرّاحل في ذكرياته أيضاً وعن مشاهد الفيلم في البصرة أشار: “بعد انتقالنا إلى العراق لتصوير مشاهد من الفيلم في البصرة، التقى بنا محافظ البصرة مُرحّباً، وأثنى على السّينما السّوريّة، وقال البصرة كلّها تحت تصرفكم، فقال له المخرج: أريد طلباً منك، أريد زبالة البصرة كلّها أن تذهب إلى موقع التّصوير. تفاجئ المحافظ بكلامه لكن تمّ الأمر كما أراد المخرج، حيث صوّرنا مشهد رمي الجثث في نهاية الفيلم …”.