الحارة أصبحت حزينة بعد رحيلك

ها هي الدّراما السّوريّة تُلقي نظرة وداعٍ أخيرة على واحدٍ من أهمّ أعمدتها وصنّاعها، الذي عمل جاهداً طوال حياته لجعلها في صورة بهيّة وحسنة أمام كلّ من أحبّها.
تبكيه بحرقة، وتتمنّى لو كان رحيله حلماً، وتعود إلى يقظتها، وتراه موجوداً، لتعلم أنّها باتت على ما يرام، فلم يطب جرحها بعد من عرّابها (حاتم علي) لتُفجع اليوم بعظيمها الثّاني الذي غادرها من دون سابق إنذار.
هذا ليس رثاءً للرّاحل (بسام الملا)، فكلّ الكلمات تقف حائرة وعاجزة أمام أعماله المبجّلة، المبدعون مخلّدون، ولا يموتون، وتبقى أعمالهم محفوظةً في الذّاكرة كـ هدية ثمينة نراها حين نشتاق إليهم.
ليست مزايا “الملا” لكونه حوّل حكاياتنا إلى أعمال فنيّة، ولا لكونه صدّر مسلسلاتنا وأعمالنا للوطن العربي والعالم، لكن سعيه للاختلاف في الرّؤية، واستحضار ما هو جديد، جعله أستاذاً في الفنّ، لا منافس له، فهو من أصحاب الأثر الذين يقدّمون إضافةً لأيّ عمل ينتمون إليه، لتبقى إنتاجاتهم خالدةً تتناقلها الأجيال.

لا يربطني شيء بالرّاحل بسّام الملا، حتّى لا أعرفه شخصيّاً، ما يربطني به فعلاً هو إعجابي الشّديد بأعماله التي شاهدتها عشرات المرّات، ولم ولن أملّها، فقد أبكانا هذا المبدع وحاكى قلوبنا وعقولنا في مشاهده، وأضحكنا في أعمالٍ الأخرى، وعرّف العالم على بعض من عادتنا الجميلة، وجمع شمل الفنّانين على المحبّة، وبالعودة إلى بعض النّجوم والعمالقة، نكتشف بأنّ جزء غير قليل منهم أصبحوا نجوماً نحتها بسّام الملّا.
رثاه الكثيرون، وليس غريباً جو الحزن الجمعي الذي نراه، لكونه واحداً من المخرجين المحترفين، الذين أصرّوا على صناعة فنّ مختلف نسبيّاً في سورية، على الرّغم من كلّ القيود والعقبات التي ربّما تكون مبرراً منطقيّاً لأيّ صاحب مشروع للتّخلّي عن مشروعه.
كان المخرج الرّاحل من أبرز صنّاع الدّراما السّورية في عصرها الذّهبيّ، قدّم مسلسل “الخشخاش” مطلع تسعينيّات القرن الماضي، بعد تجارب خاضها على مدار عقدٍ كامل كمساعد، ومخرج منفّذ، وفي العام ١٩٩٢ دشّن “الملّا”، مرحلة جديدة في صناعة الدّراما السّورية، بتقديمه مسلسل “أيّام شاميّة” الذي حقّق نجاحاً كبيراً، وتلاه “الخوالي” بعد نحو عشر سنوات، ثمّ “ليالي الصّالحيّة” في العام ٢٠٠٤.
بذلك فتح “الآغا”، كما يلقبه الوسط الفنّي السّوري، باب رواج ما يعرف بـأعمال البيئة الشّاميّة، التي أصبحت نوعاً رائجاً، ودائم الحضور على قائمة العروض الرّمضانيّة في المحطّات العربيّة، وأشهر تلك الأعمال على الإطلاق “باب الحارة”، الذي قدّم منه ٨ أجزاء، كمخرج ومنتج، قبل أن ينازعه المنتج السوري “محمد قبنض” على ملكيّة حقوقه، ويتحوّل إلى حالة كاريكاتوريّة.

لن ننسى ما قدّمه “الملا” بين “أيّام شاميّة”، و”الخوالي”؛ ففي سنة ١٩٩٧ كان مسلسل “العبابيد” عن الملكة “زنوبيا”، أحد أشهر الإنتاجات الدّراميّة التّاريخيّة السّوريّة، واختتم الرّاحل مسيرته الفنّيّة بالإشراف على سلسلة “سوق الحرير” بين عامي ٢٠٢٠و ٢٠٢١.
شكراً بسام الملا، شكراً لفنّك ولتفانيك بعملك، أنتَ من صنع لّنا أعمالاً نقيّة صافية تخلو من الشّوائب، وبحركة متقنة، وملامح واضحة، لا حشو ولا إطناب، فقط كاميرا تسحب النفس من عمق الصّدر وتشلحه زفيراً وشهيقاً عالي النّبرة، إنّه عمل على غرار الأفلام والأعمال الأجنبيّة المتقنة بكلّ التفاصيل.