أحدث المقالاتأهم المقالاتإقرأالمقالات عامة

اليقينيّات الخادعة … كيف نتخلّص منها؟

د. فاطمة أحمد

لعلّ أوّل ما يراود الذّهن عند قراءة كلمة اليقينيّات السّؤال الآتي: هل من الممكن أن يكون اليقين خادعاً؟

كلّنا ندرك بوعيّ منّا أو من غير وعيّ أنّ اليقين هو الاعتقاد البدهيّ المسلّم به، والذي لا يشوبه شكّ أو خلل من قبل أيّ موقف مهما كانت سبغته. إذاً لم سمّيناه بالخادع؟

نطلق في عرفنا الاجتماعيّ، ومن قبله العقليّ مصطلح المخادع على من يتّخذ سبل الاحتيال والمواربة في الحياة سواء أكان ذاتاً أم موضوعاً. وهذا أيضاً ليس بالجديد!

الجديد هو عندما تكون الفكرة بسيطة، وتتحوّل إلى حكم تقييميّ في المجالات الإنسانيّة عموماً والفنّية خاصّة، لتصبح فيما بعد يقيناً في ذهن صاحبه، فتخدعه وتحاول خداع من حوله من محبّين ومؤيدين له.

لا صالح ولا طالح

كثيراً ما أقفُ مطوّلاً، وذلك بحكم تخصّصي الأكاديميّ في الفكر والجمال، عندما أسأل عن تقييمي لعمل فنّي ما. وأتعجّب من الخلاف المبالغ فيه أحياناً بين بعض المثقّفين، والنقّاد منهم على وجه التّحديد، وذلك عندما يطلقون أحكاماً فنّية ونقديّة جائرة على أداء بعض الفنّانين العالميين أو الأعمال الفنّيّة أيّاً كان مجالها وتصنيفها في خانات مثل: “سيئ جدّاً” معقّد جدّاً”، “شديد القبح …”.

مع العلم أنّ مساحة الفنون حرّة، وهي تستدعي كلّ الآراء مهما بدت لنا الأحكام قطعيّة تجاهها، ولكنّ الحسم فيها لا يستدعي اليقين أبداً! فالفنون بكلّ أنواعها تحمل في نتاجاتها الكثير من الذّوق، بل ربّما تمثّل الذّائقة الحيز الأكبر في الأداء والتّلقّي معاً. على العكس من العلوم والمعارف العلميّة التي قد تبدو فيها النّتائج حاسمة إلى حدٍّ ما نظراً للقوانين الصّارمة التي تحكم آليّتها في العمل.

اليقينيّات الخادعة
فيلم “لالا لاند”

لنأخذ مثلاً الفيلم الأمريكيّ “لالا  لاند” الذي حصل على عدّة جوائز أوسكار، وأشاد به الكثيرون من الوسط الفنّيّ إلّا أنّه لم يكن فيلماً ملهماً بأفكاره كما هو معروف عن العديد من الأفلام التي حصلت على الأوسكار من قبله.

أيضاً للكاتب الكولومبيّ “غابرييل غارسيا ماركيز” رواية معروفة جدّاً، وهي “مئة عام من العزلة” التي تعدّ أيقونة الرّوايات الواقعيّة، وهي من أكثر النّصوص انتشاراً وترجمة، إلّا أنّها لم تلق إعجاباً من قبل بعض المثقّفين، وعلى الصّعيد الشّخصيّ أعرف عدّة أشخاص يمتلكون زاداً معرفيّاً لا بأس به، وعندهم الباع الجيّد في القراءة الرّوائيّة، لكنّ صبرهم نفد في قراءة الرّواية عند الصّفحات الأولى، نظراً لكثرة الثّرثرة التي لا فائدة منها، والحشو الذي لا طائل منه، على حدّ تعبيرهم!

هل هذا يعني أنّ “ماركيز” أخفق في عمله؟ لا أبداً … وإلّا من أين استحضر هذا الحضور العالميّ؟! إذ لا يمكن التّشكيك في مكانته الرّوائيّة المرموقة، وإرثه الكتابيّ، وأسلوبه الفريد من نوعه. وهل يعني أنّ اللّجنة التي منحت فيلم “لالا لاند” الأوسكار فاقدة لمعايير المعرفة الفنّيّة؟ أيضاً لا، فهي تتمتّع بتاريخ عريق في الثّقافة السّينمائيّة، وتمتلك شروطاً خاصّة تحتكم إليها عند إعلان النّتيجة.

اليقينيّات الخادعة
غابرييل غارسيا ماركيز – مئة عام من العزلة

تتعلّق المسألة، بناء على المثالين المذكورين، وغيرهم الكثير، على الذّائقة الذّاتيّة في الدّرجة الأولى، والتي تتنوّع درجاتها، وتختلف أشكالها من حيث المعرفة والثّقافة بين شخص وآخر. وعليه لا نستطيع أن نصنّف الأعمال بين قبيحٍ أو جميل بالمطلق أو بين صالح وطالح على الدّوام. ولا أقصد من كلامي الاستخفاف بالنّقد، فالنّقد عالم رحب يستدعي الأقلام الخبيرة في المقاربة، والتّوضيح، وبثّ الوعيّ في أذهان النّاس، لكن من غير إقصاء أو إلغاء للآخر، وإن استدعى الموقف لذلك، فسيكون حتماً ضمن شروط خاصّة وبرويّة وتريّث.

الذّائقة حقّ، وليست فائضاً

من الجميل أن تبدي رأيك بلا وجل في أيّ عملٍ كان وفقاً لعواطفك، وثقافتك، وخبرتك حتّى وإن كان مخالفاً للجماعة، فليس من الضّروري أن تكون مطابقاً لمجتمعك في اتّخاذ القرارات وإصدار الأحكام، لذا من المهمّ أن تنتبه جيّداً ألّا تلغي الوصاية الجمعيّة حيّزك الخاصّ، أو تهمّش ذائقتك وتخفيها. ومن المهمّ أيضاً ألّا تخفي أو تخجل من إبداء إعجابك أو نفورك من عمل فنيّ ما مهما كانت الآراء من حولك معارضة لك!

كم من عملٍ لم يلقَ اهتماماً من وسطه الاجتماعيّ، بل لاقى الاستهجان والسّخرية، لكنّه تحوّل فيما بعد إلى مصدر إلهام للمبدعين، ومحطّ إعجاب النّقاد والدّارسين! وعليه أظهرْ إعجابك أو رفضك كما تشاء من غير قيود، ومن غير التّوغل في اليقينيّات القطعيّة التي ستدخلك بلا شكّ في حبائلها الخادعة!

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى