المصير الملّتبس ..
د. فاطمة شيخو أحمد المصير الملّتبس

المصير الملّتبس
تخيّل نفسك جالساً على كرسيٍّ في مقهى تنتظر قدوم النّادل ليسألك: كيف تحبّ قهوتك يا سيّدي؟! فتفاجأ بدلاً من ذلك بشخصٍ آخر ذي ملامح مهيبة يسألك: كيف تحبّ أن تموت يا سيّدي؟!
أكاد أجزم أنّك ستفشل في الإجابة إن لم تفكر في الأمر مسبّقاً، وقد يبدو هذا السّؤال غريباً نوعاً ما، فهو لا يتعلّق بوجبة الطّعام المفضّلة لديك أو بلون اللّباس الذي تحبّ أن ترتديه،
إنه يتعلّق بمصيرك أنت، وهذا المصير مُتّفقٌ عليه، لا نكران في حقيقة وجوده، ولكن ما هو؟ وكيف يكون شكله؟ لا أنا ولا أنت نعرف حقيقة الإجابة، لذا قد يتهرّب كثيرٌ من الأشخاص من ذكر مثل هذا الموضوع، وبعضهم قد تأخذه الحالة إلى التّفلّسف أو أن يرتدي عباءة الدّين من أجل إشغالك عن التّفكير في هذا الموضوع، والانصراف إلى مقولات الذّكر التي تقيك من عذاب القبر!

دعونا يا سادة نناقش الموضوع بيسر , وعلى بساط أحمدي، ونتّفق على أنّ مسألة الحياة والموت تمثّل حالة دائمة تصاحب الإنسان منذ أن يعي وجوده حتى آخر لحظةٍ يقضيها في هذا العالم،
إلّا أنّ ثقافتنا العزيزة قد زرعت في لاوعينا فكرة الذّعر من الموت. فالموت هو:
الخطر، والعدم، والقبح، والفناء، في حين تعني الحياة: الجمال، والمتعة، ونشوة المغامرات، والعيش في تجارب متنوّعة.
قد تمّت تربيتنا وفق عاداتنا الموروثة والمسلّمة بها بأن الحياة هي المعلوم، والموت هو المجهول.
مع أن الكتب والأديان الرّوحيّة قد أجمعت على فكرة الخلود من بعد الموت، ومع هذا يبقى المرء متوجّساً من لحظة الموت، وما يحمله هذا الغريب من مفاجآت لا يعرفها إلا كلّ من جرّبها،
ومن خاض هذه المغامرة الجليلة لم يعد إلينا كي يخبرنا كيف كانت رحلته!
لست هنا في صدد إيجاد جواب سحري لهذه المسألة فما أنا مالكة لمصباح علاء الدين،
ولكنّي أمتلك كحال البشر، في العموم، فضولاً معرفيّاً يدفعني للبحث عن أجوبة تفسّر الدّوامة التي تهدّدنا على الدّوام.
نعم! تشغلني تلك المسألة: كيف سأموت؟!
وأراقب وأتأمّل حركة البشر، وسيرورة الزمن، فالموت قهر للإنسان، وإيقاف لسطوّته، وقوّته، وغروره.
ويحملني التّفكير بعيدًا نحو تاريخ الشّعوب القديمة، وطريقة موتها، كما أقرأ النّهايات التّراجيديّة لأبطال الملاحم، والأساطير، وأسأل نفسي هل النّهايات التّراجيديّة أكثر بهاءً من النّهايات العاديّة؟!
أعود لحاضري وأفكّر بيومي، وأتذكّر أننا نعيش في عالم يعاني من كوارث على عدّة أصعدة، ويعيش كلّ يومٍ شتّى أشكال الموت ما عرفناه، ومالم نعرفه، وما قرأناه في القصص، والحكايات، ومالم نقرأه. وتصيبني نوبة الحيرة من جديد، وأسأل هل نحن من نصنع معادلة الموت؟ وكيف تحوّل الموت من أيقونة إلهيّة إلى لعبة بشريّة؟
سيناريوهات الموت ليس لها نهاية في عالم يعاني من الجوع، والفقر، والمزيد من الصّراعات! ولكن بعد هذا البحث المستمر لا يجوز أن أترك نفسي مستسلمة لإشكاليّة لا طائل لها قد تجعلني أسيرة الخوف والتّردّد، وتحرمني من متعة التّجربة ولذّتها الجماليّة، وتُوقِف طاقتي الدّاخليّة عن العمل.
نحن لا نستطيع إنهاء الشّرور، والحروب في حياتنا، لكن بإمكاننا صنع حاضر أجمل بطموحاتنا، وآمالنا، وسعينا للعيش بقوّة وقدرة على التّميّز والإنجاز.
ثمّة نزوع لدى بعض البشر بأن يعيشوا كالأموات، ويجدوا مكانهم خارج دائرة الحياة بالاكتفاء بالطعام، والشّراب، والنّوم، في حين ثمّة من يحتفظ بشرف القدرة على الخلود من خلال أعمالهم، وإنجازاتهم النبيلة حتى لو اختفت أجسادهم تحت الثّرى!!
