فقر المدينة يزيد من جمالِ نسائها…
كنان خضور – المدينة الأنيقة

لا شيء يشي بقهر الشّوارع والساحات في المدينة الأنيقة، إلا تاريخها الدّموي، كذلك الحَمَام إذا ما تضوّر جوعاً هجر الأرض ومات على أطراف الغيوم ثمّ هوى بين فكي المفترسين.
هذه المدينة تُدرك جيّداً كيف تربّي الحمام، وتدرك أيضاً كيف تبعثه إلى مثواه الأخير، هناك حيث الموت لعبة يلعبها المغلوبون على
أمرهم،
هناك حيث أغلبيّة الجيل يُتقن فنّ التّعامل مع مفرزات الحرب كما يدرك فنّ البقاء، فأغلبيّة الجيل الذي نشأ في ظلّ الحرب، اختلطت لديه المفاهيم وخرجت من قاموسه مصطلحات بناء المجتمع.

منذ بداية ما يسمى الرّبيع العربي شهدت المنطقة بشوارعها وأحيائها، بمدنها وعواصمها خلطاً لأوراق السّيكولوجيّة الاجتماعيّة، وبات
مقياس الثّقافة الاجتماعيّة صفحات زرقاء، وفيديوهات مأجورة هدفها القريب جني الأرباح السّريعة، وهدفها البعيد بناء ثقافةٍ محدودة
النّظر، تفتقر للعمق والرؤية وصون الذّات، تمهيداً لما بعد الحرب حيث يسود الفقر، والفساد، والتّشتّت الاجتماعي، والسّعي وراء الطّرق القصيرة، ذات الأجل المحدود، ليبدأ الانقسام المجتمعي بعمقه المبهم، ذكورٌ سرقت الحرب منهم مفاهيم أجدادهم، وإناثٌ تعلمن كيف
يسلكن الطّرق السّريعة للوصول، أمّا الآباء فلا حول لهم ولا قوّة، من بقي منهم في زمن الحرب على قيد العيش، بات في ما بعد الحرب لقمة سائغة لبراثن الفقر والفساد، والنّساء جعل الفقر أجسادهن أكثر جمالاً، فجمال الجسد باب للعيش في مدن تأكلها مفرزات الحروب.
النساء في زمن الحرب
“لن يَمتْن من الجوع طالما لديهن كلّ هذه المفاتن”، عبارة كان يردّدها مدمنو الحرب منذ الأزل، فلا رأفة تجول في فؤادهم اتجاه رقّة
النّساء، ولا رادعاً يجعلهم يدركون ما يصنعون من خراب، أمّا النّساء يدفعن ثمن جندرة الحرب من الاغتصاب، والعنف، والتّشرّد، وانعدام
الأمان، ليجدن أنفسهن أمام عدّة مفترقات، إمّا الإتجار بأجسادهن عن طريق إرسال صورهن بالبريد لمن يدفع أكثر أو تزوّجهن، وهنّ
قاصرات،
وفي كلتا الحالتين هناك من يعتقد بأنه يمنع الرّذيلة، ترى أيّ رذيلةٍ ألعن من هذه الأخيرة.
وللتّأكيد سأتطرق لحادثة جرت مؤخراً في اليمن للطفلة “روان” ذات الثّماني سنوات، زوّجوها لرجلٍ يبلغ الأربعين، في محاولةٍ من ذويها لكسب المال ومنع الرّذيلة، ثمّ عادت إليهم في اليوم التّالي جثّة مضرّجة بدمائها إثر نزيفٍ حادٍّ عانته.

وأمّا المفترق الآخر فيدور حول النّساء اللواتي لم يحصّن أنفسهن بشهادة علميّة أو بمهنة عمليّة ثمّ فقدن أزواجهن وآبائهن في الحرب، ليجدن أنفسهن في عراك مستدام مع الحياة التي تغيّرت مفاهيمها، والذي يتلخص في البحث عن أيّ عملٍ يوقيهن حرج السّؤال، ويحفظ لقمة أبنائهن خاصّةً وأن فرصة العمل لمن ليس لديه مؤهّلات علميّة أو مهنة واضحة المعالم أصبح ضرب من الخيال، الأمر الذي جعل صراعهن على البقاء أكبر بكثير من المبادئ المزروعة فيهن، وبكلّ الأحوال ومهما اخترن من عمل، أصبح وقتهن قليل، وبدأت الفجوة تكبر بينهن وبين أبنائهن، الأمر الذي مهد الطريق أمام مفرزات الحرب، والمفاهيم الجديدة للمشاركة في تربية جيلٍ أصبح اليوم ذو قرار ببناء شخصيّته حسب المفاهيم التي تلقاها في سنوات الحرب الطّوال، والجدير بالذّكر أن الحكومات ما زالت تبحث عن “مانشيتات” عريضة، وتقنع نفسها ومن حولها أنها تتّخذ تدابير كافية لصون الجيل الخارج من حرب ضروس، حرب اتخذت من الإعلام المزيّف، والفتنة، وتدمير الإنسان أدوات لها.
الجيل الجديد من النساء ما بعد الحرب
من المعروف أن الحرب لا تخلّف سوى الفقر المدّقع والتّشرّد، فلا منتصر في الحروب، والخسارة تنهش جسد الجميع، بعد ما يقارب العقد من الزّمن على ما أسموه الرّبيع العربي باتت المنطقة بؤرة للفقر والجهل، فمن بقي في بلدانٍ تطحنها رحى الحرب يعاني اليوم من غربة الفقر، وقلّة الحيلة .
ومن هاجر في محاولة منه لحياة أفضل يعاني غربة اللّجوء، وفي كلتا الحالتين هناك جيل كامل يُعتبر الخسارة الأكبر للجميع، فالأبناء الذين يتربّون خارج بلدانهم سيفقدون الانتماء، والذين داخل بلدانهم يبنون شخصيّاتهم معتمدين على السّرعة في كلّ شيء، السّرعة في النّجاح، والسّرعة في التّثقيف، والسّرعة في كسب المال، وسرعة الفشل في نهاية المطاف.

والملفت للنظر أن هذه المفاهيم أصبحت جزء لا يتجزّأ من المجتمع، نراها بوضوح حين مراقبتنا لجيل ترعرع في أوقات الحرب من دون
أيّ رعاية دوليّة أو حكوميّة، فأصبحت الثّقافة تتلخّص في “السوشيال ميديا”، والمكاسب السّريعة هاجس لدى الجميع،
من دون الأخذ بعين الاعتبار ما سينمّ عنها من كوارث، وإذا دقّقنا النّظر فسنرى بوضوح نسبةً لا بأس بها من الفتيات اللواتي ينتمين
للجيل الجديد، ومدى تأثرهن بثقافة “السوشيال ميديا” هذا إن كنّ ينحدرن من بيئة استطاعت أن تقاوم مآسي الحرب، وتحافظ على ترابطها الأسري،
أمّا إذا كنّ من تلك العائلات التي عانت التّشرّد، والفقر في سنوات الحرب، فسنرى جيلاً جديداً من الفتيات عقولهن واقفة عند الكسب
السّريع للمال مع تجاهل مصدرها الذي يتغطّى بسبل الشّهرة، وربما بأشياء أخرى، خاصّة مع وجود قناعة مطلقة لديهن أن المجتمع الذي يعشن فيه تسوده السّلطويّة الذّكوريّة،
وفي نهاية المطاف كلّ ما يجري يؤدّي إلى تشرذم المجتمع، ويزيد على النّساء عبئاً جديداً،
مع العلم أنّهنّ في مدنٍ تدّعي حريّة المرأة، وتعترف بحقّ المساواة، لكنّها لا تضمن صونهنّ، وتتركهنّ فريسةً للفقر، والفساد، وضعاف النّفوس، ويبقى عدداً كبيراً من النّساء تعتريهن مرارة الخوف في الحرب، وما بعدها.
ريتينغ برودكشن – المدينة الأنيقة