اللغةُ العربيّةُ لكمةٌ قاضية بوجهِ التّطوّر

قالَ المستشرقُ “مارسيل كوربرشوك”: “تعلمتُ الإيطاليّةَ كي أبدو لطيفاً أنيقاً، والفرنسيّةَ لأظهرَ مثقفاً، والعربيّةَ لأثبت أنّني صنيعةُ الله”.
لفتني القولُ كثيراً حدَّ الوصولِ إلى التّحدّي الذي نزلَ على أساطينِ هذه اللغةِ وأربابِها (كفارِ قريش) حين قالَ تعالى: (فأتوا بسورةٍ من مثلِه) وذلكَ ما لا يقدرُ عليهِ مؤلِّفٌ بشريٌّ مهما وصلَ منَ العلمِ والحذاقة، رجعتُ بعدَها إلى لحظةِ رجوعِ الوليدِ بنِ المغيرةِ لقومِهِ من عندِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وهو يقولُ لهم: (واللهِ لقد سمعتُ منْ محمدٍ آنفاً كلاماً ما هوَ منْ كلامِ الإنسِ ولا منْ كلامِ الجن، واللهِ إنَّ لهُ لحلاوة، وإنَّ عليهِ لطلاوة، وإنَّ أعلاهُ لَمُثمِر، وإنَّ أسفَلهُ لَمُغدِق، وإنَّهُ يعلو ولا يُعلى عليه) ولمْ يمنعْهُ أن يُسلِمَ وقتَها إلا داءُ الكِبر وأنَّ الرّسالةَ لم تكنْ من فخذِ قومِه.

في كلامِهِ وكلامِ من بعدِه، والتّحدّي القائمِ منذُ نزولِ الوحيِّ (إقرأ) حتى القيامةِ وما بعدَها، لم يكنِ الأمرُ مقتصراً على الإعجازِ اللغويِّ والبلاغيِّ والجِرْسِ الموسيقيِّ فقط، لأنّه في هكذا حالٍ يصيرُ مختصَّاً بالعربِ وحدِهم من دونَ غيرِهم، والقرآنُ كتابُ اللهِ للنّاسِ كافةً، لا تنقضي عجائبُه، بل كان الأمرُ لحظتِها، ودائماً هو قدرةُ هذهِ اللغةِ التي علمَ اللهُ سبحانه وتعالى منذُ الأزلِ أنَّها إبداعيّةٌ لدرجةِ أنَّ التّرجمة لا تستطيعُ سحبَ جودِتِها وروحِها، وخاصّةً في كلامٍ بهذا الإعجازِ والإيجازِ والدّقةِ التّصويريّةِ والفلسفةِ بالإجابة على أسئلةِ الوجودِ الكبرى، ولدرجةِ النّظرِ فيها بإيقاعِها وخطِّها وحروفِها، والتّمازجِ الرّهيبِ بينَ كلِّ ذلكَ، كما شهدَ بذلكَ الأعاجمُ قبلَ العربِ، وقد أكَّدَ “غوته” الألمانيُّ بالكثيرِ منَ المطارحِ على هذا التّمازجِ بينَ الخطِّ والإيقاعِ وشكلِ الحرف وصوتِ نطقِهِ باللغةِ العربيّة، كلُّ ذلكَ كانَ للحدِّ الذي لا يتركُ مجالاً لكلِّ أصحابِ نظريّةِ التّطوّرِ، والمنادينَ بعشوائيّةِ الكونِ والصّدفةِ أن يقولوا أنَّ العقلَ الذي اخترعَ هذه اللغةَ وفكَّرَ بها، وحتّى الذي استقبلَها ورتَّبَها بما يتناسبُ مع حياتِهِ هو عقلٌ تطوَّرَ من كائناتٍ أخرى حيوانيّةٍ بلا عقلٍ أصلاً.

إذ أنَّ الخلايا مهما تطوَّرَتْ وتعقَّدَتْ فهي عاجزةٌ عن خلقِ مستوى تفكيرٍ وإدراكٍ بشكلٍ عام، وهذه إحدى أهمِّ الحلقاتِ المفقودةِ في النّظريّةِ، وهي حلقاتٌ كثيرةٌ تُسقِطُ عقدَ النّظريّةِ بأكملِهِ، ولكنّني هنا بصددِ الحديثِ عنِ الحلقاتِ المفقودةِ التي تخصُّ اللغةَ والتفكيرَ بعيداً عن الحديثِ عن الحلقاتِ المفقودةِ من علمِ الرّياضيّاتِ عموماً، والاحتمالاتِ خصوصاً، والمتحوِّلِ العشوائيِّ، والحلقاتِ المفقودةِ من السِّجلَّاتِ الأحفوريّةِ، والتي قالَ “داروين” نفسُهُ صاحبُ النّظريّةِ: (إنَّ وجودَ عددٍ منَ الحلقاتِ المفقودةِ بالسِّجلِ الأحفوريِّ إذا استمرَّ لمدّةٍ بسيطةٍ يؤدّي إلى سقوطِ النّظريّة) عدا عن الحلقاتِ المفقودةِ من المنطقِ والفلسفة، المهمُّ بالرّجوعِ إلى اللُّغةِ العربيّةِ، وبالعلمِ أنَّ التّفكيرَ والإدراكَ واللغةَ عواملٌ متبادلةٌ يؤدّي زيادةُ أحدِها إلى ارتفاعِ منسوبِ الآخرِ طرديَّاً، نكتشفُ أنَّ كلَّ هذا الكمِّ من التّعقيدِ المُصاغِ بمنتهى السّلاسةِ والإيقاعِ كان ناتجاً عن التّفكيرِ ومُنتجاً لهُ في آنٍ معاً، ومن هنا يكونُ إثباتُ إنتاجِها عقليّاً دليلاً واضحاً على مقدرةِ العقلِ الذي يستحيل بكلِّ العلومِ والنّظريّاتِ أن يكونَ تفكيرُه وإدراكُهُ وليدي مصادفةٍ في تطوّرٍ عشوائيٍ للخلايا، وبذلك حُقَّ لهذا المستشرقِ الهولنديِّ أن يقولَ أنَّهُ تعلَّم العربيّةَ ليُثبتَ أنَّهُ صنيعةُ الله.
