أحدث المقالاتأهم المقالاتإقرأ

العدوى المستمرّة … اقتحم أو تنحّ جانباً!

د. فاطمة أحمد

نحن لا نعيش في مدينة فاضلة تحيا فيها كلّ الآراء والأفكار ووجهات النّظر متوافقة ومنسجمة مع بعضها. هذه المدينة ذات المعايير السّامية جدّاً قد لا تكون موجودة سوى في مخيّلة أفلاطون ومن بعده الفارابي، وفي ذلك لا يوجد أيّ ضير أو إشكال.

الإشكاليّة تبدأ عندما يبني كلّ فرد من أفراد المجتمع أحكامه وآراءه وفق الوسط الاجتماعيّ المحيط، وعندما يكبر يتبنّى الرّأي العام السّائد بوعي منه أو من غير وعي. والأوّل أخطر من الثّاني. لماذا؟ لأنّه يعمد إلى إمساك العصا من المنتصف كي لا يزعج أحداً أو يكرهه شخص ما، وقد يفضّل المشي بجوار الحائط من أجل أن يبقى تحت حمايته، فهو السّند والمعين له من وقعات الزّمن وردّات الفعل غير المتوقعة، وبذلك يضمن وجوده اللطيف وحضوره البهيّ في المجتمع، وسيمرّ في الحياة كظلٍّ خفيف لا يسببّ إحراجاً لأيّ أحد. ولكنّه مع هذا كلّه لن يفلح في تحقيق النّجاح، لأنّ آراءه لم تكن مبنيّة على تأمّل وتفكير مستقلّ، بل هو نسخة عمياء عن غيره. وكم مرّة نادينا فيها بعدد من الآراء الغريبة التي لا تشبهنا، ولكنّنا تناقلناها عن أسرتنا وأصدقائنا وأجدادنا والأشخاص الذين نعجب بهم ونحبّهم من غير أن يسأل أحدنا في قرارة نفسه هل هذه الأفكار الغريبة عنّي تشبهني أو تمثّلني من الدّاخل؟ أم أنّ عدوى التّقليد استملك حواسنا وعقلنا ومنعنا من رؤية ما تناقلناه جيلاً عن جيلٍ فصرنا عمياناً يقودنا عميانٌ؟

مخلوقات شديدة التّأثّر

يظنّ الكثير من البشر أنّهم يسيرون وفق المبادئ العليا والصّحيحة ما إن يلتزم أحدهم في أقواله وقراراته وردّات فعله اليوميّة بما تؤمن به الجماعة التي ينتمي إليها وتوافق عليه، سواء في الفكر أم الفنّ أم الاقتصاد وغيره، ولكنّ الحقيقة ليست كذلك إذ إنّنا مخلوقات نتأثّر بشدّة بمن حولنا، وتجتاحنا العدوى بشكلٍ كبيرٍ، فنحن كثيراً ما نبتعد ونخاف إخبار الآخرين بما نريد ونُعلمهم فقط بما يودّون سماعه وما يعجبهم.

العدوى المستمرّة ... اقتحم أو تنحّ جانباً!

أسئلة لابدّ منها!

• كيف نعرف مصداقيّة الفكرة التي تجول في أذهان كلّ النّاس؟

• هل عندنا الجرأة على سؤال جميع النّاس بما يفكِّرون فيه؟

• وهل يجرؤ الأشخاص على مشاركة أفكارهم مع بعض بطلاقة ومن غير الحكم سلباً على طريقة تفكيرهم واتهامهم بالسّوء والمنكر أيضاً؟

• ماذا لو كان من المحتمل أن نقع ضحيَّة تلاعبٍ في كيفيَّة فهمنا بما يفكِّر فيه الآخرون؟

تمثّل هذه الأسئلة في الواقع منهجاً معقّداً في العالم، إذ تعدّ محور أهمّ تقنيّات التّلاعب السّياسيّ في تغيير مضمون الرّأي وتحريف الآراء وتغيير الموازين.

وتستمرّ الحملات الإعلاميّة بتوجيه الضّوء نحو رأي الأقلّيّات والتّركيز عليها، لتجعلها تظهر أنَّها تمثّل رأي الأكثريّة، وأكبر دليل على ذلك ما تشهده استطلاعات الرّأي التي تسبق الانتخابات، إذ تخبرنا وسائل الإعلام بمن يحقُّ لهم التّرشيح ومن لا يحقُّ لهم. وبعد إعلان نتائج هذه الاستطلاعات، يظهر لأفراد المجتمع زيف ما نشره الإعلام، ويقع بذلك ضحيَّةَ عمليَّة تلاعبٍ مجهّزة بدهاء.

يميل غالبيّة البشر إلى الوقوف في صفِّ الأكثريّة على أن يُحسَبوا على الأقليَّة. يقفون مع رأي الأكثريّة وإن عارض ما يضمرونه ويؤمنون به. وبذلك يُنظر إليهم بقبول وتأييد في أعين الآخرين، لذلك يمتنعون عن إظهار رأيهم خوفاً من التّعرّض للهجوم أو الاستهزاء أو التّهميش، وتخلق حلقةٌ مفرغةٌ تنتهي إلى العيش في معاناةٍ مضمرة، وإلى إقصاء فكر الأغلبيّة في المجتمع.

الحسم الأخير

من الضّروري القول إنّ أيّ مجتمعٍ لا يتسامح مع الاختلافات في الرّأي هو مجتمعٌ هشٌّ وضعيف، لذلك من المهمّ جدّاً أن تسأل نفسك في كلّ موقف يمرّ بك وبصراحة: هل قراراتي صادرة عن إيماني الخاصّ بنفسي ومعرفتي بها؟ إذا كانت الإجابة نعم، فلا تخف انتقل إلى الخطوة التّالية واسأل نفسك: ما هو أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث؟ هل أنا جاهز له؟ هل يمكنني أن أنجو؟ وبناء على تلك الإجابات، وعلى أولويّات سعادتك وراحتك: خاطر أو تنحَّ جانباً!

العدوى المستمرّة ... اقتحم أو تنحّ جانباً!

ريتينغ برودكشن

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى