في مفهوم الشعر والتريند

يروي أبو فرج الأصفهاني في كتابه المشهور “الأغاني” 45/ 3: “أن تاجراً من الكوفة قدِمَ المدينة بخُمرٍ، فباعها كلّها وبقيت السُّود منها فلم تنفُق، وكان صديقاً للدارميّ (وكان الدارميّ في أيام عمر بن عبد العزيز، وكان له أشعار ونوادر، وكان من ظرفاء أهل مكّة، وله أصوات يسيرة)، فشكا ذاك التّاجر إليه، وكان الدّارميّ قد نسَك وترك الغناء وقول الشّعر، فقال له: لا تهتمّ بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع؛ ثم قال:
قُلْ للمليحة في الخمار الأسودِ ماذا صنَعتِ براهبٍ متعبِّدِ
قد كان شمّر للصلاة ثيابه حتى وقفتِ له ببابِ المسجدِ
وغنّى فيه، وغنّى فيه أيضاً سنان الكاتب، وشاع في النّاس وقالوا: قد فتك الدّارميّ، ورجع عن نسكه؛ فلم تبقَ في المدينة طريفةٌ إلّا ابتاعت خِماراً أسوداً حتّى نفِدَ ما كان مع العراقي منها، فلمّا علم بذلك الدّارميّ رجع إلى نسكه ولزِم المسجد”.

إذاً هذه الأبيات الغزليّة التي تحرّك المشاعر وتوقظ الخيال، حتّى يومنا هذا، كلّما سمعناها أو قرأناها، كانت إعلاناً تجاريّاً. قد جعلت من الخمار الأسودِ “تريند” أبديّ يعود إلى الصّدارة كلّما ذُكرت تلك الأبيات.
في الواقع ما كانت تلك الأبيات إلا حملة “ماركيتينغ”، حملة #تسويق تشبه حملات الـ”سوشال ميديا” إلى حدٍّ كبيرٍ.
وكانت الحملة من نمط (B to C) من العمل (التّاجر أو فريق التّسويق متمثّلاً بصديقه الشّاعر)، إلى المستهلك مباشرةً.
في مقاربة مشابهة، قرأت نصّاً للشاعر السوريّ هاني نديم، كان قد نشره على صفحته الـ”فيسبوكية” بتاريخ 5 يونيو/ حزيران 2022، يقول فيه:

“يوماً ما سأكتب سيرتي الذّاتيّة فقط لأعرّج على فساتينك واحداً واحداً …
إذ أنها أجمل من البلاد وأعتى من الدّهر وأحلى بكثيرٍ من الجيران …
ولو أسعفني الوقت
سأفرد فصلاً كاملاً عن فستانك ذي الورد الأسود!
عن كيف أحرقته بسيجارتي وأنا أضمّك وأحرقت الزّمان …
وسيكون الفهرست:
*فستانها الأصفر
*على طريق كمّها المائل
*المكشوف ظهراً، صدر الشعر
و
هكذا”.
بكلّ بساطة وتأكيد، “تريند” الموسم هو فستان مكشوف الظّهر، ذو كم مائل، أصفر اللّون ذو ورد أسود … حتماً سيكون هذا طلب كلّ فتاةٍ تقرأ منشور هاني نديم فتسحرها الحبكة، ويحرّكها الشّعر.
بعيداً عن تحليل أسباب وأهداف الشّعراء، التي قد تكون مقصودة كما فعل الدّارميّ، أو غير مقصودة كما في قصيدة (نديم)، لكن كم من الجميل والمقنع أن يكون الشّعر هو طريقة للتّسويق، “ماركيتينغ” لذيذ الكلمة والنغم والخيال، أن يكون الشّعر الجميل هو محرّك الذّوق العامّ وصانع الـ”تريند”.