الذائقة الفنية بين جيلين

بالأمس؛ وبعد أن أقيمت حفلة على أحد المدرّجات لمطربٍ جديدٍ غير معروف، إلا لجيل الأطفال والمراهقين، ولكن لديه متابعين بالملايين! ضجّت صفحات التّواصل الاجتماعي للحديث عن تدهور الذّائقة الفنيّة بوجهٍ عامّ بين النّاس، وبصورةٍ خاصّة بين أبناء الجيل النّاشئ.
في الواقع الذّوق لا ينشأ في فراغ، وإنما يُصقل عبر مراحل مستمرّة، تتضافر فيها جهود الأسرة والمجتمع والمدرسة ووسائل الإعلام والفنّانين وأجهزة الثّقافة والفكر.
لا يولد الإنسان وهو يتذوّق الموسيقى الرّفيعة، أو يدرك جمال اللّوحات الفنّيّة، أو يهتزّ للشّعر الرّاقي، وإنّما يجري تدريب ذوقه ووجدانه وعقله معاً على فكّ شيفرات الجمال في النّغمة واللّون والحركة والصّوت، وتدريب الذّوق عمليّة طويلة ومعقّدة، وتكاد تكون مستمرّة.
لقد مرّت سنوات كاملة سادت فيها أنواع من الفنّ الرّديء، ووجدتْ لها جمهوراً واسعاً يعتبرها آياتٍ اكتمل لها الجمال في أبدع صوره وأزهاها، إن كان في فنّ الغناء أو الكتابة أو غيرها من الفنون، مما يعني أنّ ثمّة ظروفاً تخلق الذّوق وتتحكّم فيه، صحيح أن فطرة الإنسان تعشق الجمال، لكن هذه الفطرة تُفسد بما يطرأ عليها من عوامل التّشويه، وتصدأ بفعل ما يتراكم فوقها من طبقات اعتياد القبح ومعايشته الطّويلة.

تَلقّي الموادّ الإعلاميّة يخضع، بدرجةٍ كبيرةٍ، للقواعد ذاتها، فهو يعتمد على تنمية ذائقة الجمهور وصقلها وتهذيبها، وتدريبها على معايير راقية يلزم أن تتوافر للمادّة الإعلاميّة لكي تكون لائقة للعرض على جمهور المتلقين.
عدا أن الإنسان العربي يتعرّض منذ سنيِّ عمره الأولى إلى مستوى متدنٍّ من المعالجات والقصص والأخبار التي تضغط على أكثر الجوانب سوءاً في الطّبيعة البشريّة، مما يؤدّي إلى تشكيل مقاييسه وفقاً لما تلقاه، وتشويه ذائقته بحيث تصبح أقرب إلى النّفور مما هو راقٍ وجميل.
لقد عاش الإعلام العربي الرّسمي زمناً، كان قدراً مفروضاً على المشاهدين الذين لا يجدون وسيلة أخرى في ظلّ عدد محدود من ساعات الإرسال الإذاعي والتّلفزيوني، وبضع صحف ومجلّات.
وحين انفجرت ثورة الاتصال ولم تعد السّياسات السّابقة مجدية، برزت الخطّة البديلة: خطّة تفريغ الإعلام من مضمونه، وإطلاق طوفان الإسفاف والإثارة.
وليس خافياً أن الإعلام الرّسمي العربي صار ينافس القنوات الخاصّة في التّرويج لثقافة الابتذال والفضائح، بعد (تمهيدٍ) كثيف أزال عنه الحرج، وسقطت معه حواجز سابقة كانت تفرض عليه بقيّة من حياء ورصانة.

لعلّ أوّلها يتعلّق بالأخبار، والقصص التي تنال أكبر درجات الاهتمام من المواطن العربي، وهي لا تخرج -غالباً- عن أخبار الفضائح من طلاق وزواج الفنّانين، وحكايات التّشهير والشّذوذ النّفسي والجنسي والاغتصاب، والقصص التي يختلط فيها الجنس والدّين والجريمة، أو التي تثير نعراتٍ طائفيّةٍ أو قطريّة، وغير ذلك من الموادّ التي يتمّ تقديمها في إطار من الإثارة .
جيل تافه
يقول نائل إسماعيل، وهو أبّ لثلاث فتيات في مرحلة المراهقة: “في زماننا تربّينا على أغاني أم كلثوم ونجاة الصّغيرة وفريد الأطرش وفيروز بقاماتهم العملاقة، أمّا الآن فقد تحوّلت الأغنية من شكلها المعروف إلى شكل بالغ البساطة، بطريقة صارت تعتمد فيها على مقامات بسيطة” كما أشار إلى أنّ “الانترنت وشركات الإنتاج غلّبا ثقافة العين على ثقافة الأذن، لدرجة أنّ معيار النّجاح كثيراً ما صار يلتصق بالفيديو كليب، بينما كانت إمكانيّات المغنّي الصّوتيّة هي ما تصنع نجاحه سابقاً، أمّا هذا الجبل لا يميّز بين الغثّ والثّمين بل يفضّل الرّديء! هو جيل تافه بامتياز، وقد جُبرتُ أن آخذ بناتي بيدي إلى هذه الحفلة السّخيفة بعد ساعاتٍ من البكاء والرّجاء لم ينفع بها أي إقناع”.
خطاب كراهية
يقول في هذا الصّدد حيدر مصطفى، وهو صحفي وناشط على وسائل التّواصل الاجتماعي، ومن جيل الشّباب، أثناء لقاءٍ في برنامج “زووم روم” على قناة العالم: “من المعيب إنكار حقوق مجموعة كبيرة من الأشخاص بأن يسمعوا من يحبّون، بغضّ النّظر إن كان من ينتقد يحبّ هذا الفنّان أو لا، فكيف يسمحون لأنفسهم مصادرة حقّ مراهق أو طفل أو غيره بأن يسمع الفنّان الذي يميل له، ويحضر حفلة له؟! ما هذا الخطاب المملوء بالكراهية؟ ولماذا يحقّرون هذا المراهق بوصفه تافه؟
من المعيب التّفوه بهذه الألفاظ، خاصّةً من قبل أناس مثقفين …! ولماذا لا نستذكر أيّام مراهقتنا عندما كنّا نستميت لحضور حفلات فنّانين من زماننا؟ ثمّ إن من قال إنّ الموسيقى البديلة هي شيء شاذ وسيء؟! الموسيقى البديلة هي موسيقى متنوّعة، وليست جديدة، وموجودة منذ زمنٍ ليس بالقصير …”.

فرح عارم
تقول ليان، وهي فتاة في الخامسة عشرة من العمر: “عندما سمعتُ بخبر مجيء هذا الفنّان إلينا طرت من الفرح، لأنّني أحبّه كثيراً، حاولت بكلّ جهدي إقناع أهلي حضور الحفلة، حتّى أنّني وفّرتُ ثمن البطاقة من مصروفي، ولم أصدّق أنّني استطعتُ أخذ “سيلفي” معه، لن أنسى هذا اليوم في حياتي”.
بناءً عليه؛ يصف البعض الجمهور العربي بأنّه هو من يطلب هذه الموادّ، ويحرص على ملاحقتها، ويدفع وسائل الإعلام دفعاً إلى الاستجابة له على كرهٍ منها، سعياً وراء الشّعبيّة وتوسيع دائرة المتلقين، وتحقيقاً للرّبح الذي هو هدف مشروع لأيّ وسيلة إعلام، على اعتباره أنّه في النّهاية (صناعة)، كأيّ صناعة أخرى. لكن الحقيقة أنّ وسائل الإعلام والـ”سوشيال ميديا” هذه هي من صَنَعَ ذوق الجمهور صنعاً، ودرّبه على استهلاك هذا النّمط من الموادّ الرّخيصة، وهذا ما حصل مع أطفالنا الآن عبر تطبيقات الأجهزة الذّكيّة، ومواقع تواصلها، فلا تلوموا جيل تربّى عليها، وبوتيرة واحدة، خلاف والديه الذين عاشا زمنين، زمن الإعلام الرّسمي وأغاني السّيّدة والكتب الورقيّة، وزمن الانفلات وأغاني الـ”ديفا” والكتب الإلكترونيّة.

كلّ ما يسعنا فعله هو توجيه الجيل الحالي إلى الاستماع لما هو راقي في الموسيقى، وبعد ذلك يمنح حريّة الاختيار في الاستماع لما يشاء، لأنّ المطلوب حاليّاً هو أن يعلم الشّباب بوجود أنواع موسيقيّة أكثر إبداعاً ممّا ينتشر بشكل مهول في الانترنت.