الحياة على ضفّة الموت
فراشة الكلمة الحرّة

ليست من عادتي أن أكتب أو أتحدّث عن موت شخصيّات أعرفها، فلا شيء يمكن أن يقال في حضرة الموت أو في حرم الفقدان، وما من كلمات تُقال للتّخفيف من ثقل الوجع، لأنّ لغات العالم كلّها تصبح عاجزة عن وصف حجم المرارة والحزن كما إنّ المواساة في هذه اللّحظات تفقد قيمتها وتصبح هباءً منثوراً أمام ألم الفراق! فكيف إذا كانت المسألة مرتبطة بشخصيّة محترمة ومعروفة في عالمنا العربيّ؟ عندها يكون الحزن من نوع آخر حزنٌ متعلّقٌ بالاندفاع وراء جلب الأضواء وتحويل خبر الموت أو الاغتيال إلى ومضة أو “ترند” يختفي بريقه بعد عدّة أسابيع. لذا أتجنّب، غالباً، الكلام قولاً وكتابةً في هذه الحادثة وشبيهاتها وأكتفي بالمراقبة الصّامتة والدّعاء الصّادق عسى أن يصل دعائي لروح صاحبها في السّماء!

إلّا أنّ الخبر اليوم انتشلني من الصّمت عندما تلقّيتُ، مثلي مثل الملايين من النّاس، خبر اغتيال الإعلاميّة شيرين أبو عاقلة على أيدي الجنود الإسرائيليين حينها انتابني شعور غريب، أحسستُ بطعنة قويّة في ذاكرتي وألمٍ في رأسي وتراءى في ذهني الكثير من صور الحروب التي ما آن لها أن تنتهي في هذه الكرة الأرضيّة. عرفتُ شيرين صحفيّة حرّة وشجاعة مذ كان عمري 12 سنة مع أنّ شاشة التّلفاز في بيتنا لم تكن تتوقف عن عرض كلّ نشرات الأخبار والبرامج المهتمّة بالشّأن السّياسيّ في بلادنا على العموم من الصّباح حتى المساء. والحقيقة كنّا نرى الكثير من الصّحفيين والصّحفيّات المتمكّنين من أدائهم، والذين استطاعوا أن يظهروا ميّزات تكنيكيّة عالية المستوى في الأداء والكتابة المهنيّة، باستثناء شخصيّة واحدة تفوّقت على أساسيّات المهنة بإنسانيّتها وموضوعيّتها وابتسامتها الهادئة إذ كلّما ظهرت على التّلفاز سارعت العائلة جميعها إلى الإنصات والمتابعة والتّعاطف بكلّ جوارحها مع ما تقدّمه.
إنّها الشّهيدة شيرين أبو عاقلة الصّحفيّة الحربيّة التي صنعت معاني الشّجاعة ورباطة الجأش في ميادين القتال والحصار والحروب الطّاحنة، وللصّراحة أحببتُ فلسطين من خلال إيمانها وتفاؤلها بأن الجمال له مكان في العالم مهما امتدّت مساحات القبح، كما أحببتُ فيها الأنثى الصّحفيّة الطّموحة من خلال إخلاصها واحترامها لنفسها أوّلاً وللمجتمعات التي توجّه لها رسالة إنسانيّة ثانياً.

رحلت “شيرين” عن عالمنا الضّيق والمحدود إلى عالم رحب ولطيف كروحها، هل خافت من الموت؟ غير مهمّ، لأنّها كانت تعرف جيّداً أنّ الموت يستهدفها على الدّوام فهو على مسافة قريبة منها، طالما أنّها تحمل في عقلها المعنى الأسمى لمفهوم الحرّيّة.
سلام لروحك أيّتها الفراشة.