الحداثة المتطرّفة والشّعر

أن نرى الشّعر اليوم يتراجع من حياتنا اليوميّة، هو أمرٌ غريب جداً، على الرّغم من الحاجة الملحّة لحضوره في فترة استبداديّة، دمويّة، متردية يعيشها مجتمعنا، ومجتمعات أخرى على كافة الأصعدة.
لا شكّ أن الحداثة المتطرّفة التي كسرت كلّ القيود بفوضويّة، واتّبعت اللا معياريّة منهجاً، وجعلت من الصّراخ غناءً، ومن موزة على وجه حائط مع شريط لاصق لوحةً فنيّة، ومن كلام غير منضبط، ولا متّسق، مع بعض الموسيقى، وبنبرةٍ صوتيّةٍ مصطنعة شعراً، ساهمت بشكل كبير في قتل الشّعر، وإخراجه، وإبعاده عن الحياة الاجتماعيّة. يكفي اليوم بأن تقول كلمة “شعر” على جموع من النّاس لتفريقهم، ولن تحتاج لخراطيم المياه، وقوّات الأمن الخاصّة.
ففي وقت يظنّ فيه شعراء الحداثة في عالمنا العربي أنّهم تحرّروا من سلطة الوزن وقيد القافية، ومن المرجعيّات الرّجعيّة في الأدب، وانطلقوا في فضاء الكلمة الرّحب بلا أيّ حمل فوق ظهور حروفهم، أو غطاء على أثداء معانيهم. دخلوا في قيدٍ من نوعٍ آخر هو قيد الأيديولوجيّات، التي أعطت للحداثيين قوالباً وأنماطا واستعارات جاهزة، يكتبون على مقاسها، ويدورون في مدارها، جعلت النّص الشّعري رهناً للحالة الشّخصيّة، وهلوسات النّفس، ودارت حول وجدانيّاتٍ في مسار يتّفق مع الأيديولوجية، حتى غدت نصوصهم أشبه بثرثرة أيديولوجية عقيمة – على حدّ تعبير أحد النّقاد – مثيرة للضّجر حيناً وحيناً آخراً للاشمئزاز. لا أعتقد أنّ على أيّ عملٍ أدبي أو فنّي أن ينقذ العالم أو أن يلخّص مدرسة فلسفيّة ما أو أزمة إنسانيّة في كلماته بقدر ما يتوجّب عليه خلق حالة من المتعة والأمل والتّأمّل في قلب القارئ بشكل يتسرّب في أعماق شعور ووعيه، لكي نبني عليه في دفعه إلى الأمام.
وقد جعلوا من الشّعر مادة أكثر نخبويّة من أيّ عصرٍ مضى
وسرقوه من بين أيادي النّاس بعنجهيّة وتعالي ثقافي بغيض. فما المثير للانتباه والمميز الذي سيجلب اهتمام النّاس، والفئة الأكبر من المجتمع العربي الذي يمرّ بأشدّ مراحله التّاريخيّة تردّياً اقتصاديّاً، وسياسيّاً، وثقافيّاً، ما المثير لديهم في كلام خلع ثوب الشّعر لكنّه ما زال مصرّاً على تغطية عورته باسم الشّعر، وهو لا يعبّر ولا يتناول همومهم الاجتماعيّة من منظورهم، ولا يتبسّط إليهم بلغة رصينة بسيطة جميلة لا يتكلّفون في فكّ طلاسمها، أو يعودون في كلّ سطر منها إلى المعاجم اللّغويّة والقواميس، ما القيمة في قصائد لا تحمل ملامحنا ولا تشبهنا.

الحداثة المتطرّفة والشّعر
منذ عدّة أشهر حضرت جلسة شعريّة لبعض هؤلاء، رأيتهم في مقدّمتها يتفاخرون في كون الجلسة نخبويّة بامتياز، أو بمعنى أدق كانوا يتفاخرون بسرقة الشّعر العربي من الحياة الاجتماعيّة ومن أيدي النّاس على اختلاف مستوى ثقافاتهم وتعليمهم، وممارسة الإرهاب والقمع الشّعري على كلّ من لا ينضمّ إليهم أو يتّفق معهم على جعل القصيدة باحةً للتهريج والثرّثرة اللغويّة المملّة، التي لا يصفّق لها أو يعجب بها غيرهم.
هؤلاء الحداثيون، فهموا الحداثة أن نمشي على أرض الحاضر عراة بلا أثواب كما ولدتنا أمّهاتنا، بدل أن نرتدي ثياباً عصريّة تجمع في ألوانها وتصاميمها الماضي بالحاضر، وتبني عليه وتخلق لغةً ونصّاً وشعوراً جديداً يفيض على كافة النّواحي الأدبيّة والعلميّة والاجتماعيّة، ليس فقط الشّعر.
الحداثة من منظورهم الضّيق، هي أن نتبرّأ من التّراث الأدبي الضّخم لدينا، ومن تاريخنا، من أبطاله وأنذاله، ومن كلّ ما يربطنا بالماضي، وأن نرتمي في أحضان حضارة الغرب القوّي ولغته القاصرة – شعريّاً على الأقلّ – إذا ما قيست بلغتنا لغة البحار الواسعة، والموج العالي، والسّماء الرّحبة التي تعطي الجميع مرادهم.
من الخطأ الاكتفاء بالقديم والتّعصب له، الماء الرّاكد يَفْسَد، والقلب الصامت قلب ميت، لكن من الخطأ أيضاً رمي كلّ ما هو قديم في القمامة والخروج من جلودنا بالجملة.
في النّهاية، لا يستحق الشّعر والفنّ عموماً اسمه إذا لم يؤدِ دوره الإنساني، واقتصر في فحواه على تجربة فرديّة شخصيّة أنانيّة معاقة في رؤيتها ومشوّهة في فكرها، ولا يستحقّ اسمه أيضاً حين ينغلق على ذاته، ويرفضُ التّماشي مع مستجدات الزّمن ومتطلبات الحياة الاجتماعيّة، وأحزان وآمال الآخرين، أو العمل على خلق وعي جديد مضادّ لما تروّج له أنظمة الاستبداد والقتل والسّحل أو حيتان التّجارة في العالم المتحضّر، فكلّ قطعة موسيقيّة تُؤلَّف، وكلّ قصيدة جديدة تُكتب، وكلّ لوحة فنيّة تُرسم، يولد معها وعي جديد لدى النّاس.
عزيزي العربي، لست الملام لأنّك لم تعد تقرأ الشّعر.
