عندما يصبحُ الإجرامُ عنواناً لحياتنا
يا ليته وجعاً عاديّاً!

آخذُ نَفَساً عميقاً عندما أرغبُ في الحديث مشافهةً أو كتابةً عن بلادنا، ويتهيّأ لي بيني وبين نفسي أنّ هذا النَفَس سينقطع قبل البدء بسرد الحكاية المأساويّة والطويلة والمعقّدة على التّحليلات والتّفسيرات والاستنتاجات!
ما الطّارئ إذاً؟
الانغماسُ حرفيّاً في مشاهدة الفجائع اليوميّة غير المنتهيّة، قد يدفعنا إلى الصّراخ بأعلى صوت لعلّه يثقب غشاء الطّبل عند أحد النّائمين المنتفخين بالغطرسة والعجرفة اللإنسانيّة وغير المبالية لما يحدث من انتهاكات كثيرة بحقّ وجودنا.
وجعٌ حتّى النّخاع!
“لم أستطع تحمّل بكائه وضجيجه، فأقدمتُ على قتل ابن زوجي ذي الخمس سنوات مستغلّةً غياب والده عن البيت، وذلك بسبب بكائه المستمرّ. قمتُ بضربه على وجهه عدّة مرّات بغية إسكاته ممّا زاد من بكاءه أكثر، أنا أكرهه! قرّرت التّخلّص منه وقتله، فقمتُ بالضّغط على عنقه بيديّ حتّى فقدَ وعيه”.
هذا الكلامُ ليس خرافة أو أسطورة، بل هو صادرٌ عن امرأة حقيقيّة تعيش في بلادنا، وقد تمّ التّحقّق من الجّريمة بوجود أدلّة وإثباتات جنائيّة. الكارثةُ ليست هنا، بل في تجاوز معنى الكارثة! وذلك عندما اعترفت المرأة ذاتها بتعذيب شقيق المغدور الطّفل (خالد) البالغ من العمر سنتين ونصف عن طريق تحريض ابنة عمّه البالغة من العمر ثلاثة عشر عاماً لحرق الطّفل (خالد) بواسطة أداة صلبة بعد تسخينها وحرقه بها على جميع أنحاء جسمه، وقد تمّ تأكيد ذلك من قبل الطّبيب الشّرعيّ بعد إجراء الكشف الطبّيّ على الطّفل (خالد) بتعرّضه لحروق بواسطة جسم صلب!

حادثة أخرى تعيشها صديقتي بشكل حيٍّ ويوميٍّ عندما تسمع صوت إحدى جاراتها، في منتصف اللّيل، وهي تعتدي ضرباً، لمدّة ثلاث ساعات متواصلة على، طفل ربّما لا يتجاوز عمره ستّ سنوات، وذلك كلّه أمام صمت أهل البناء والحيّ كلّه!
قد يذهب أحد القارئين إلى القول: إنّ هذه الجرائم ليست غريبة، فهي سمة كلّ زمانٍ عفنٍ متدهور في قيمه. إذاً ماذا سنقول عندما استيقظ سكّان العالم الافتراضيّ مؤخّراً على ما جرى في عالمنا الحقيقيّ المخزي لتلك الطّفلة الرّضيعة المرميّة في إحدى الأزقّة، وقد نهش الجرذان وجهها الملائكيّ؟!
باللَّه عليكم! أليس هذا السّلوك، بغض النّظر عن فاعله من يكون، ناتجٌ عن موت الرّوح عند فاعله، وتحوّل هيكله الجسديّ إلى وحش ضارٍّ؟!
لماذا كَثُرَ الصَّدأ من حولنا؟
لا فائدة من ذكر الكوارث الاجتماعيّة والإنسانيّة وإلقاء اللّوم والشّتم على فاعليها، والبكاء والولولة على حال زماننا وأوضاعنا إن لم نعرف المسبّب الرّئيس، والجذر الخفيّ الذي يقف وراء الفظائع! وهنا لابدّ من القول: إنّ الوضع السياسيُّ لا ينفصلُ عن الوضع الثّقافيّ والاجتماعيّ، فإن تفسّخ أحدهم نتج عنه الخراب واليباب، وتكاثر وتضاعف بشكلٍّ جنونيٍّ في باقي الأوضاع. ولكن يا ترى هل من أحد يستطيع أن يجابه سطوة الدّمار الجماعيّ علينا؟ أم أنّنا سنبقى على حالنا في الرّثاء والولولة؟
