اتركوني … فأنا قاتل محترف!

لا بدّ أنّكَ سمعتَ عزيزي القارئ ما يسمّى بالطّاقة، إذ ليس الضّوء أو الحرارة وحدهما مرتبطان بالطّاقة، بل الأفكار والهواجس والتّداعيات وحتّى الأمراض التي انتشرت في أماكن جغرافيّة واسعة من العالم، وسيّطرت على كيانات بشريّة كبيرة، ما هي إلّا شكل من أشكال الطّاقة، لا تفنى ولا تخلق من العدم بل تتحوّل من شكل إلى آخر.
نعم! هذا الكلام ليس ضرباً من الخيال أو تهويمات غير منطقيّة، إذ إنّ الأمراض التي تظهر عبر الزّمن تتحوّل من خلال الكوارث الطّبيعيّة والتّغييرات الدّيمغرافيّة والسّياسيّة إلى أوبئة تلعب بها التّجارب العالميّة والصّراعات والحروب الدّوليّة، وقد ينتهي بنا الأمر ربّما إلى جائحة تحصد أرواح الملايين من البشر.
آلة متوحّشة
قد تظنّ أنّ آلة الموت هي المسؤولة عن أعمال العنف مثلاً أو الإرهاب أو النّزاعات المسلّحة أو الانتهاكات البشريّة لكن هناك آلة متوحّشة أخرى تفوّقت بشكل أو بآخر على ما ذكر، إذ نعرف جميعاً أنّ العالم يعيش في السّنوات الأخيرة حالة ذعر شامل وتخبّط رهيب من مرض خطير يهدّد البشريّة، وهو فايروس كورونا (كوفيد-19) الذي سمّي بـ(داء العصر)، فترى هذا الدّاء أشبه بالوحش الخفي الذي يتسلّل إلى الجسد البشري خلسةً فينهش روح صاحبها متلذّذاً بتعذيبه المرير. وبكلّ تأكيد لا أبرّئ الإنسان من مسؤوليّة صنع هذه المأساة (كورونا) كما لا أبرئ أيضًا حكومات الدّول الكبرى من مسؤوليّة انتشار هذا المرض، والذين يسلّطون فجأة الضّوء على مرض واحد وخطير فتتقاسمه الدّوائر كلّها الطّبّية والصّحيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة، وتستنفر كلّ المراكز الرّسميّة بمختلف فروعها تجاه هذا الموضوع. ويتمّ إعلان سياسة التّأهّب في كلّ مكان بدءاً من الغرب انتهاءً بالشّرق إنذاراً بحدوث كارثة إنسانيّة، وذلك بعد أن يصير المرض أمراً واقعاً لا يمكن إيقافه أو التّخفيف من تقلّباته وتبعاته. وكما يحدث في كلّ مرّة نقبل على ما يحدث بعد أن “يقع الفاس بالراس”، ولنجد أنفسنا ملدوغين ومتألّمين إمّا كمتفرجين أو كضحايا لما يحدث.

إذًا ليس من المفاجئ أن يتصرّف مرض مثل كوفيد 19 تصرّفًا جنونيًّا في ضراوته وحصده لأرواح الملايين وتغييره لحركة العالم قد يتجاوز سطوته أقدم أشكال المرض التي عرفتها البشريّة سابقاً ليس من حيث عدد الخسارات البشريّة فقط، بل من حيث حجم الهلع والمرارة والقسوة الذي خلّفه والذي كان في الغالب نتيجة تطفّل الإنسان على كلّ ما حوله، ولا أقصد بالتّطفّل هنا المدلول المعرفي للكلمة، بل أقصد الإساءة النّاتجة عن معرفة مسطّحة أو مقوّلبة أو موجّهة ومدمّرة.
كثيرة وإن لم تظهر!
آن الأوان الاعتراف بفكرة أنّ أمراض الحياة كثيرة ظاهرة وخفيّة معروفة ومغمورة، وهي ليست تابعةً لأقدارنا المصيريّة على الدّوام، لذلك يجب أخذ الحيطة من الفجيعة، والفجيعة هنا قد لا تكون على مستوى فقدان الأجساد فحسب، بل على مستوى القيم والكرامة والتّخلّي عن الأحقاد وانتهاك الأعراض أيضاً آنذاك سنكون قادرين ربّما على الحديث عن آلامنا وأوجاعنا الرّوحيّة والجسديّة بشيءٍ من السّلام والألفة.
وسواء كنتَ أيّها القارئ قد أصبت بالكوفيد 19 أم أنّك تقف مصطفّاً حتى يأتيك عدوى المرض بعد أن شاهدتَ أحداً من أقربائك أو جيرانك مصاباً به، فلا تنسى أن تصغي إلى ذاك الصّوت الخبيث الذي ينهش في أجساد البشر وهو يهمس: أنا قاتل محترف! احذروا منّي … فقد تعلّمتُ منكم فنون الشّيطنة.
