أحدث المقالاتمقالات عشوائيةمواهب واعدة

أنقاضُ العالم الغربي … أيقوناتٌ من البشاعة البشريّة

السياحة السوداء (3)

وسام رحال

انتظر قليلاً؛ لم ينتهِ الأمر بالذي ذكرناه عن سياحةٍ سوداء في دول عربيّة وحسب، فالعالم العربي ليس وحده من ذاق الحروب، إن الغلّ البشري كان أكبر من ذلك، وامتدَّ شرقاً وغرباً، وترك بصماته على ضحاياه كشاهدٍ على فعلته النّكراء، وحتى يومنا هذا ما يزال في مياه بحري البلطيق، والشّمال، وبمحض الصّدفة، يتمّ اكتشاف قنبلةٍ في المياه، حافظت على قوّتها الانفجاريّة، على الرغم من أنّها لم تنفجر بعد.

ويعد تفجيرها ضمن البحر هو أفضل الطّرق، لتجنّب خطرها على البنى التّحتيّة، والمدنيين، وبذلك يتمّ عند تفجيرها عرضٌ مائي مدهشٌ بمقابلة جزيرة “روغن”، عرضٌ من للنوافير الضّخمة والهائلة، ليس احتفاليّاً، إنّما عرضٌ واقعيٌّ جداً، ما زال يعيد نفسه كلّ فترة.

في ألمانيا العديد من ذلك على اعتباره بلداً لعب دوراً مفصليّاً في الحرب العالميّة الأولى والثانية، فمدينة “بينمونده” على مصب نهر “بين”، التي تُعدّ مقصداً سياحيّاً عظيماً اليوم من أجل شواطئها، وشطائر السّمك الشّهيرة، اختارها مهندس الصّواريخ “فيرنيرفون براون” ليصنع فيها اختراعاته، وتقع على 400 كم بمحاذاة السّاحل، ليتمكّن من اختبار مدى الصّواريخ، من مقرّه السّرّيّ، في هذه المدينة التي تدعوك للاستجمام كان الدّور المفصلي الأكبر في تغيير مسار الحرب الأعظم في التّاريخ الحديث، والدّور الأكبر في بداية الطّريق لصناعة أسلحة الدّمار الشّامل، بقي من كلّ هذا محطّةً قديمة فيها المتحف التّقني، ونماذج الصّواريخ الملقاة على الأرض، وأوراق المخططات الأولى، وأذرع توجيه الطائرات، ولأنَّ المتحف يسعى لتسكير الماضي، والبدء من جديد فهو لليوم يستضيف حفلات أوركسترا “فيلاهارمونيك” في قاعة توليد الكهرباء سابقاً، ليجمع المكان بين الماضي الذي كان يهدّد بتفتيت أوروبا، والحاضر الذي يعزف الحياة وإيقاعاتها لرفض الموت.

أيقوناتٌ من البشاعة البشريّة
مدينة بينمونده

المتحف حاصل على جائزة “كوفنتري” نسبةً لصليب “كوفنتري” الذي عثر عليه تحت أنقاض الكاتدرائية بعد أن دُمّرت هي الأخرى، بالقصف النازي الذي وقع على بريطانيا، وهي للآن تقف كأحد أشهر نصبٍ للسّلام في العالم.  

كنائسُ كثيرة لاقت ما لاقت من ظلم الحروب، يمكنك أن تزورها كأنّك تسمع بكاء العذراء يصدح فيها، ككنيسة القيصر “فيلهلم”، التي قُصفت على يدّ قوّات الحلفاء، وبقيت منها أنقاض البرج الرئيس للمبنى، وكنيسة “سانت ألبان” في كولونيا في ألمانيا، وقد فقدت قبّتها التي أصبح من الصّعب جدّاً إعادتها، فتمّ تدشين الكنيسة كنصب تذكاري مفتوح، وفيها تمثال “حداد الآباء”، وتوقيع “ارنست بارلاش”، ليقول لنا كيف تألّمت الكنائس، ولم تشفع لها قداستها، حتى أنَّ كنيسة البعث “بفورتسهايم”، تمّ بناؤها من أنقاض البيوت المدمّرة، لتبقى رمزاً للسّلام، لم يكن أحدٌ يتوقع أن تصل الوحشيّة الإنسانيّة لهذه القداسة، ولذلك بني في ألمانيا مخبأ “دوسلدورف” على شكل كنيسة للتمويه، ويُعدُّ أكثر المخابئ صلابةً في العالم، وما زال لليوم يقوم كمركزٍ للفنون البصريّة، وكنصبٍ تذكاري، ومكانٍ للعبادة، فتتحقق فيه السّياحة السّوداء، وسياحة الاستجمام، والسّياحة الدّينيّة على حدٍ سواء، قد يكونُ ذلك غريباً بحكم الرّبط بين القداسة والحروب، لكنّه حدث فعلاً، ومازالت آثاره شاهدةً عليه.

أيقوناتٌ من البشاعة البشريّة
كنيسة فيلهلم

المواقع المتروكة على امتداد الشّواطئ الأطلسيّة الفرنسيّة، تبدو ليومنا صالحةً للاستخدام العسكري هناك، حيث وقف الجيش الألماني بانتظار إنزال القوّات المتحالفة، إنزال “النورماندي” الشّهير، الكلّ دفع الثّمن غالياً، ولكن اليابان دفعت لـ”هيروشيما”، ومازالت تدفع لها أكثر بكثير مما دفع غيرها.

اليابان لم تشأ أن يمر حدثٌ كهذا مروراً عابراً، فقد قرّرت أن تصنع نصباً تذكاريّاً لمجزرتِها، كان النّصب عبارةً عن جزءٍ من قبّة “جنباكو” المكسورة، فنصبٌ كهذا يأخذك حتماً لتلك الحقبة التّاريخيّة، ليقول لك ما جرى، ويروي لك تاريخ المدن بصوت أحجارِها.

ليس هذا كلّ ما في جعبة العالم من بشاعة، فلديه أكثر من هذا بكثير، إنّه عالمٌ بشعٌ يتحفنا بقدرته على التّمهيد لنوعٍ جديدٍ من السّياحة، وهو سياحة الحروب.

أيقوناتٌ من البشاعة البشريّة
هيروشيما

ريتينغ برودكشن

Amer Fouad Amer

صحفي مستقل / القسم الثقافي والدرامي النقدي مقدم ومعد برامج
زر الذهاب إلى الأعلى