أوهام عتّال سيبيريا…
الدكتور ممدوح حمادة

يقول عالم النفس النمساوي “فيكتور فرانكل”: “في الطبّ النّفسي توجد حالة معيّنة تُعرف بـ “وهم الإبراء”. يمتلك فيها الشّخص، المُدان فوراً قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه، شعوراً غامضاً يشبه الوهم بأنه سوف يجري إنقاذه من الإعدام في اللحظة الأخيرة”، هذه اللحظة الأخيرة التي يعيشها المحكوم بالإعدام نعيشها نحن مدى الحياة تقريباً.
في بلدةٍ نائيةٍ في سيبيريا في أواخر الثّمانينيات، التقيت مصادفةً بمخرج مسرحي سوري خرّيج أحد المعاهد المسرحيّة السّوفييتيّة، سألته إن كان هناك إقبال على المسرح الذي يعمل فيه في هذه البلدة النّائية، فأجابني بحرقة: “كلّ سكان المدينة تقريباً يتردّدون على مسرحي يوميّاً”. لاحقاً، علمت أن المسرح الذي يتحدّث عنه هو السوبر ماركت الموجود في مركز البلدة، فقد تبيّن أنه يعمل عتّالاً في هذا السّوبر ماركت. وعندما علم أنني في السّنة الأولى، قال: “تعلّم من تجربتي، يا بنيّ، أبقِ فمك، خلال السّنوات المقبلة، مقفلاً. لا تروِ النّكات ولا تستمع إليها، ولا تطالب بإطلاق المعتقلين السّياسيين، وإلا فإنك لاحقاً ستعمل عتّالاً في بلدةٍ نائيةٍ ما، تتحدّر زوجتك منها. عندما قدمت، كنت أعتقد أن كلّ شيءٍ في غيابي سيتغيّر، وأنني سأعود إلى سورية التي ترفل بأثواب الدّيمقراطيّة. سيكون هناك حريّة صحافة وحريّة تعبير وإلى آخره من هذه التّرهات. ولكن خمس سنوات، يا بني، فترة قليلة في عمر التّاريخ. كان لساني فيها ينطلق من دون شعور بالخوف، لم أترك شيئاً لم أتحدّث عنه، لم أترك شخصيّة لم أروِ عنها النكات، ولا شيء كان يبعث في نفسي الخوف، فالتغيير قادم، ولا أحد يملك الحقّ بأن يحاسبني على ممارسة حقّي المشروع.
لكن نهاية الدّراسة حلّت كالقضاء العاجل، والتّغيير الذي حصل جاء على عكس توقعاتي، وكان نحو الأسوأ، وبدلاً من حريّة التّعبير أصبح كمّ الأفواه سياسة رسميّة، وزجّ آلاف في السجون، وأنا طلبت من قريب متنفّذ أن يضرب لي “فيشي”، فأخبرني أنه سيُلقى القبض عليّ في المطار. وهكذا لم يبقَ أمامي إلا قرية زوجتي هنا. وبعد تردّد، قرّرت أن عتّالاً في سوبرماركت القرية أفضل حالاً من زنزانةٍ لا يعلم إلا الله في أي سجن ستحتويني، فلا تكرّر تجربتي البائسة”.
يرافقنا وهم التّغيير منذ ولادتنا، فنحن نعتقد أننا، بعد انتهاء الدّراسة، سنعثر على عملٍ يجعلنا أثرياء وأكثر رفاهيّة، ولكن عدداً كبيراً منّا لا يتجاوز امتحانات الثّانوية، فتتلقفهم سوق العمل الرّاكدة أصلاً. ومن ينهي الجامعة لا يجد أمامه أكثر من مجال التّدريس الذي لا يختلف كثيراً عن سوق العمل. وسرعان ما يكتشف أن مهنة التّدريس، أو ما يشابهها من الوظائف، ليست إلا احتيالاً على الفقر والجوع، فيلحق برفاقه السّاقطين إلى سوق العمل الذي يوفر له عملاً إضافيّاً، غالباً ما يكون من الأعمال السّوداء. وسيظلّ وهم التّغيير يرافقه حتى اللحظات التي يلفظ فيها أنفاسه على سرير المرض، وكمريض سيبقى يعاني من وهم الشّفاء، على أساس أن العلم سيعثر على علاجٍ لهذا المرض بين لحظةٍ وأخرى.
اللاجئ أو النّازح سيبقى يعتقد أنه عائد، وربما يأخذ مفتاح بيته معه، لكي يفتح أقفاله عند عودته، ولكن البيت سيتهدّم، ويصبح أثراً والشّخص سيموت، ولا يبقى سوى المفتاح الذي لا يعرف ماذا حلّ بقفله.
على الصعيد الوطني، يكاد وهم التّغيير يكون شاملاً كذلك، لأن كثيرين سيعتقدون، مثلما اعتقد “عتّال سيبيريا” أن البلد سينهض وستتغيّر أوضاعه، وأن القضاء سيصبح مستقلاً والبرلمان سيصبح منتخباً، وسيجري بحسب القانون تداول السّلطة، سواء بين الأشخاص أو بين الأحزاب، ولكنه سيموت والبلد على حاله، والتّغيير يسير بخطى حثيثة نحو الأسوأ، وإذا جرت محاولةٌ للتغير سيتدخل كلّ خلق الله لمنع هذا التّغيير. يكاد الموقف يكون ميؤوسا منه، والتّغيير لن يحدُث إلا بطفرة تاريخيّة ما غير محسوبة منّا، ربما تحدث بعد أيّام، وربما بعد مائة عام، ولكنها ستحدُث، أقول هذا فقط، لأنني “أعلّلُ النّفس بالآمال أرقبها … ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”.