إحدى ابتسامات الكاتب المسّرحي والقصصي “أنطون تشيخوف”
عودة إلى “المُغَفَلَة”

تتراكم في الذّاكرة ابتساماتٍ مهمّة، طبعتها قصص الكاتب المسرحي والقصصي “أنطون تشيخوف”، هذا المبدع الذي تميّزت كتاباته بالدّقة الوصفيّة، والتّمهّل في لحظاتٍ، قد نمرّ عليها بسرعة في حياتنا اليوميّة، لكنه يراها بمُجْهِر قلمه، ونتلقاها منه بمتعة قلّ مثيلها لدى كاتبٍ آخر، ومن أجمل ما اتصفت به كتابات “تشيخوف” أنه لامس المرأة بكلّ تفاصيلها، الدّاخليّة والشّكليّة، والمرأة في ذلك الظرف كيف تتصرّف؟ وكيف تنفعل؟ وكيف تقوم بفعلها وردّ فعلها؟، لا نجد لدى أيّ كاتب على مرّ العصور شموليّةً في وصف المرأة كما وصفها “تشيخوف”، واعتنى فيها، ومن بين هذه الابتسامات آثرنا أن نعيد نشر قصّة قصيرة مهمّة جداً، بعنوان “المُغَفَلَة”، تمّ تجسيدها في السينما والمسرح عشرات المرّات، والتي تنطبق على عدد كبير من الناس بل على الملايين منهم، وإليكم نصّ القصّة التي تقول على لسان كاتبها، وترجمة أبو بكر يوسف:
“منذ أيام دعوتُ الى غرفة مكتبي مربّية أولادي “يوليا فاسيليفنا” لكي أدفع لها حسابها،
قلت لها: اجلسي يا “يوليا”، هيّا نتحاسب، أنتِ في الغالب بحاجة إلى النّقود، ولكنك خجولة إلى درجة أنك لن تطلبينها بنفسك، حسناً، لقد اتفقنا على أن أدفع لك ثلاثين روبلاً في الشهر.
قالت: أربعين.
قلت: كلا، ثلاثين، هذا مسجّل عندي، كنت دائماً أدفع للمربيات ثلاثين روبلاً، حسناً، لقد عملت لدينا شهرين.
قالت: شهرين وخمسة أيّام.
قلت: شهرين بالضبط، هكذا مسجّل عندي، إذن تستحقين ستين روبلاً، نخصم منها تسعة أيّام آحاد، فأنت لم تعلّمي “كوليا” في أيّام الآحاد بل كنت تتنزهين معه فقط، ثمّ ثلاثة أيّام أعياد.
تضرّج وجه “يوليا فاسيليفنا”، وعبثت أصابعها بأهداب الفستان، ولكن.. لم تنبس بكلمة.
واصلتُ: نخصم ثلاثة أعياد، إذن المجموع اثنا عشر روبلاً، وكان “كوليا” مريضاً أربعة أيّام، ولم يكن هناك دروس، كنت تدرّسين “فاريا” فقط، وثلاثة أيّام كانت أسنانك تؤلمك، فسمحتْ لك زوجتي بعدم التّدريس بعد الغداء، إذن اثنا عشر زائد سبعة.. تسعة عشر.. نخصم، الباقي وهمّ واحد وأربعون روبلاً مضبوط؟
احمرّت عين “يوليا فاسيليفنا” اليسرى، وامتلأت بالدّمع، وارتعش ذقنها، وسعلت بعصبيّة وتمخطت، ولكن لم تنبس بكلمة.
قلت: قبيل رأس السّنة كسرتِ فنجاناً وطبقاً، نخصم روبلين، الفنجان أغلى من ذلك، فهو موروث، ولكن فليسامحك الله! علينا العوض، وبسبب تقصيرك تسلّق “كوليا” الشّجرة ومزّق سترته، نخصم عشرة، وبسبب تقصيرك أيضاً سرقتْ الخادمة من “فاريا” حذاء، ومن واجبك أن ترعي كلّ شيء، فأنتِ تتقاضين مرتّباً، وهكذا نخصم أيضا خمسة، وفي 10 كانون الثاني / يناير أخذتِ مني عشرة روبلات.
همست “يوليا فاسيليفنا”: لم آخذ.
قلت: ولكن ذلك مسجّل عندي.
قالت: حسناً، ليكن.
واصلتُ: من واحد وأربعين نخصم سبعة وعشرين، الباقي أربعة عشر.
امتلأت عيناها الاثنتان بالدّموع، وظهرت حبّات العرق على أنفها الطّويل الجميل، ياللفتاة المسّكينة.
قالت بصوتٍ متهدّج: أخذتُ مرّة واحدة، أخذت من حرمكم ثلاثة روبلات، لم آخذ غيرها.
قلت: حقّاً؟ انظري، وأنا لم أسجّل ذلك! نخصم من الأربعة عشر ثلاثة، الباقي أحد عشر، ها هي نقودك يا عزيزتي! ثلاثة.. ثلاثة.. ثلاثة.. واحد، واحد، تفضلي.
ومددت لها أحد عشر روبلاً، فتناولتها، ووضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة، وهمست: شكراً.
انتفضتُ واقفاً، واخذتُ أروح وأجئ في الغرفة، واستولى عليّ الغضب.
سألتها: شكراً على ماذا؟
قالت: على النّقود.
قلت: يا للشيطان، ولكني نهبتك، سلبتك! لقد سرقت منك! فعلام تقولين شكراً؟
قالت: في أماكن أخرى لم يعطوني شيئاً.
قلت: لم يعطوكِ؟! ليس هذا غريباً! لقد مزحتُ معك، لقنتك درساً قاسياً، سأعطيك نقودك، الثّمانين روبلاً كلّها! ها هي في المظروف جهزتها لكِ! ولكن هل يمكن أن تكوني عاجزةً إلى هذه الدّرجة؟ لماذا لا تحتجّين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدّنيا ألاّ تكوني حادّة الأنياب؟ هل يمكن أن تكوني مغفّلة إلى هذه الدّرجة؟
ابتسمتْ بعجزٍ فقرأت على وجهها: يمكن.
سألتُها الصّفح عن هذا الدّرس القاسي وسلّمتها، بدهشتها البالغة، الثّمانين روبلاً كلها.. فشكرتني بخجل وخرجت.
تطلعتُ في أثرها وفكّرتُ: تطلعتُ في أثرها وفكّرتُ: ما أبشع أن تكون ضعيفاً في هذه الدّنيا، وأبشع منه أن يوجد فاجراً لا يقدّر ذلك.
بالفعل ما أبشعنا، وما أذلّنا إذا استسلمنا لمن يسرقون حقوقنا.
ويجعلونا نعيشُ على الفتات أو نموت جوعاً.
في هذه الحالة نستحق ذلك”.